شكّل قرار الرئيس الأمريكي بانسحاب قوات بلاده من سوريا تحولاً في مسار الأزمة السورية عموماً وبخاصة فيما يتعلق بشمال وشرق سوريا، حيث الإدارة الذاتية الديمقراطية المُهدّدة من قبل قوى عديدة في مقدمتها تركيا ومن ترافقها من مجموعات إرهابية، إضافة إلى روسيا والتي كانت ترى في الوجود الأمريكي وقوات التحالف الدولي في المنطقة عموماً وفي سوريا خصوصاً منافساً قوياً وعائقاً أمام مشاريعها واستراتيجيتها الطويلة الأمد. بالطبع هذا القرار له تأثير على المعادلات والأدوار على المستوى الداخلي السوري، وعلى المستويين الإقليمي والدولي بشكل عام، وعلى توزع خارطة النفوذ فيما بعد بين الأطراف المتصارعة والمتنافسة، وكذلك سيكون له تأثير كبير على عملية القضاء على داعش خاصة فلدى لداعش مخارج ومداخل عدة، ويستطيع أن يتجمع ويستعيد قوته في مواضع الخلل والضعف خاصة. إن عدداً كبيراً من الإرهابيين ضمتهم تركيا إلى المجموعات المرتزقة المرتبطة بها خلال احتلالها لجرابلس والباب وإعزاز. لكن؛ الخطر الأكبر هو إن التنظيمات الإرهابية في غرب الفرات ومن بينها جبهة النصرة وأحرار الشام، والعشرات من المجموعات الإرهابية المرتزقة الأخرى قد أبدت استعدادها للقتال ضد الإدارة الذاتية الديمقراطية ومكوناتها المجتمعية والسياسية، ونموذج عفرين مثالٌ حي أمامنا. إذاً ما ينتظر شرق الفرات بعيداً عن تغريدات ترامب لا يزال غامضاً. والسؤال الأبرز المطروح؛ ماذا بعد الانسحاب الأمريكي؟ هناك جملة من النقاط والاحتمالات. لكن؛ ما هو مؤكّد وبعيداً عن تغريدات ترامب المفزعة للبعض والغامضة بالنسبة للآخر، هو إن الدور الروسي سيتعاظم خاصة وإن روسيا تحاول كسب قوات سوريا الديمقراطية، ومجلس سوريا الديمقراطية إلى جانبها وستعمل على التقارب بين شرق الفرات ودمشق، وبالتالي ستعزز من موقعها الجيو سياسي في سوريا والمنطقة خاصة وإن لها الدور الأكبر في رسم مسارِ حل الأزمة بسوريا.
التصريحات الأخيرة للقيادة الروسية ولبعض مسؤولي النظام السوري حول إمكانية التوصل إلى تقارب واتفاق ما بين مجلس سوريا الديمقراطية الذي يمثل شمال وشرق سوريا سياسياً، والنظام السوري وبرعاية روسية سيكون له تأثير على العلاقة الروسية التركية، فمن جهة ستتخلص روسيا من الضغوط التركية باعتبارها ستمتلك الورقة التي تحاربها تركيا والمجموعات الإرهابية ومظلتها السياسية الائتلاف السوري. ومجلس سوريا الديمقراطية أعرب عن نيته في التقارب بينه وبين النظام السوري حتى قبل قرار الانسحاب الامريكي، وليس خافياً بأن روسيا تتخوف من تعاظم الدور التركي في سوريا في حال قيامها باحتلال شرق الفرات أو لعبت دوراً معيناً عبر التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ننسى بأن جزء من المعارضة السورية الراديكالية تعمل تحت المظلة التركية ووفق الأجندة التركية. أيضاً هناك احتمال بأن تعمل روسيا على ربط كافة أجندات حلفائها في شرق الفرات (النظام السوري، إيران، وتركيا) عبر تفاهماتٍ معينة مع واشنطن، وذلك من خلال إعادة بسط سيطرة النظام على بعض مناطق شمال وشرق الفرات بشكلٍ أو بآخر، وبالتالي منح ضمانات لتركيا وكذلك السماح لها بالتوغّل في بعض المناطق غير الاستراتيجية بالنسبة لروسيا وللنظام السوري؛ وذلك من أجل الضغط على مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية للرضوخ لشروط النظام وروسيا فيما بعد. لكن؛ يبقى هذا الاحتمال مرهوناً بالموقف الأمريكي وقوات التحالف الدولي حيال شمال وشرق سوريا، وعلاقتها بقوات سوريا الديمقراطية بعد الانسحاب، وكذلك موقفها بشأن الحل في سوريا. وهناك احتمال آخر برز بُعيد تغريدة ترامب والأصوات التي خرجت من الكونغرس الأمريكي والموقف الفرنسي خاصة والذي تمحور حول ضرورة حماية شمال وشرق سوريا من التهديدات والهجوم التركي، وضرورة حفظ أمن حلفائها على الأرض من أي تهديد يطال المنطقة، وهنا يتم الحديث حول إقامة منطقة آمنة في شمال شرق سوريا. لكن؛ الغموض يكتنف حول شكل وأبعاد وكيفية إدارة وحماية هذه المنطقة، فمن جهته صرح مجلس سوريا الديمقراطية بأنه مع وضع شمال وشرق سوريا ضمن نطاق المنطقة الآمنة، وعلى أن تشمل كل المناطق التي حررت من داعش الإرهابي وبضمانات دولية تحافظ بها على أمن واستقرار هذه المنطقة.
حقيقة إن جعل هذه المنطقة تحت حماية دولية كفيلٌ برد كل الأخطار التي تهدد الاستقرار ونموذج التعايش الذي حصل في كل المناطق التي تحررت من داعش في شمال وشرق سوريا، خاصة وأن قوات سوريا الديمقراطية والتي حررت هذه المناطق تخوض اليوم المعارك الأخيرة للقضاء على بقايا التواجد العسكري لداعش في مناطق سوسة والشعفة وهجين وبالتالي سيكون كامل شرقي نهر الفرات مُحرَّر من سيطرة داعش، وبالتالي ستشكل هذه القوات جدار حماية قوي للمنطقة الآمنة بمفهومها الحقيقي؛ أي منطقة محمية من الأخطار والتهديدات والقصف الجوي وتُدار من قبل أبنائها بكل مكوناتهم، كما هو الحال بالنسبة للإدارات المدنية الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا. أما الحديث عن التفاوض مع النظام فهو أمرٌ لا بد منه وأعتقد أن الكُرة في ملعب النظام خاصة وإن قوات سوريا الديمقراطية ومجلس سوريا الديمقراطية طلبا رسمياً من النظام السوري بضرورة حماية السيادة السورية، وأعربت هذه القوات عن استعدادها للوقوف إلى جانب النظام لتحرير كل المناطق التي احتلتها تركيا، وإنها مستعدة وبدون شروط على حلٍ سياسي ديمقراطي ينهي الأزمة، وبات واضحاً خاصة وإن بعض الدول بدأت تنفتح على دمشق وأيقنوا بأن النظام هو جزء من الحل وعليه يقع المسؤولية الكبرى. وبالتالي على النظام أيضاً أن يبدأ بخطوة جدية بشأن حل الأزمة، وذلك من خلال القيام بمشروع حوار وطني مفتوح يجمع كل الأطراف وبدون شروط أو قيود أو فيتو على قانون أو مبدئ دستوري معين، ويمكن لروسيا أن تلعب دوراً مهمّاً في هذا الحوار لما تملكه من نفوذ على عموم الأطراف السورية المختلفة.