تعد تجربة الشاعرة سامية إبراهيم الكتابية من حيث الكم تجربة متواضعة، قياسا إلى نصوصها المنشورة على مواقع التواصل الافتراضي، والتي تدل على شاعرية شاهقة، وتجربة لا تتوقف عند سطح النص بل تتخطاه إلى إعادة إنتاج الفكرة، وتدوير المعنى من خلال معايشة واقعها وطرح رؤاها، عبر تحرير لغتها الشعرية من القيود، فتترك العنان لمشاعرها الذاتية المحتجزة في مكان ضيق حيث خطوط الانكشاف وتخوم الشوك، وتجتازها نحو مساحات من ضوء، بلغة سردية نحو أفق الشعر.
وإذا كانت النمطية النثرية بناء تعتمده للتعبير، فإن نصوصها حاملة للفكرة التي تسعى إليها وتنحو إلى التأمل في التفاصيل، وإلى معانقة أشيائها، تحمل في دفق نصوصها رؤاها الذاتية التي تتقارب أو تتباعد مع رؤى الملتقي، فنصوصها ملاذ حقيقي لروحها المتعبة التي لا تعرف الخوف: “أطردُ الخوفَ من على دراجتي الهوائية/ أطردُ الفزاعات/ وأهجو السجنَ الذي بلا قضبان الذي، يبدأُ من الجسد/ ويمرُّ بالحائطِ الحدودي الذي بناه الأتراك”.
ربما نشعر من خلال نصوصها وكأنها تختار الرؤية الفردية، ولا تصغي لصوت الآخرين، وهو ليس إنكاراً للحالة الجمعية وليست هروبا نحو العزلة والاستغراق في الذاتية، إنما وفاء وإنصات لصوت ضميرها وذاكرتها الوعرة المسالك، مع امتلاكها الحركة اللغوية الرشيقة، وهي سمة أساسية لنصوصها، ولعل النهر يحمل تلك الصفات، فنهر الشعر يجري ويحمل الحياة للضفاف والأرض وتمضي هي مثل “قارب ثمل” حاملة للآمال، تمضي بتصاعدية نحو خواتيم من الصعب التكهن بها، فقاربها الشعري لا ضفاف له كي ينعم بالسكون قليلاً، إنما هي نصوص لاهثة كنهر تركض وحيدة في حقول الشوك:
“أركضُ/ ويسألُني النهر/ والقاربُ الذي أشرعتُه/ إلى أين؟”
أبطال نصوصها يغرقون في عزلتهم حيث لا مسامر لهم سوى الوحدة، ليس سوى وحدتهم فضاء شاسع ممتد دونما نهاية، كنوع من التيه والتجريد من الفراغ البارد إزاء رمال حارة تحملها الريح:
“أهيمُ في السرابِ الممدودِ حياةً تُلهي/وشكاية لا يستمعُ إليها أحد”.
إزاء هذه الـ “أنا” في مواجهة الآخر، تلك الأنا المسكونة بزهوها، وبذاتيتها الحقيقية تعبر عن إرهاصاتها وخيالاتها الممجدة بكثير من العلو، والمثقلة بهموم الواقع الشرش، فقط صخرة ثقيلة تحتفظ بدموع من هاجر وترك المكان.. إنها تكرر المشهدية ذاتها، حيث مضى زوار كثر دموعهم التي عرفوها مذ كان الدمع هوية الهجران، ومذ كان الدمع هوية الحزن، هكذا تسرد ذاكرتها:
“واحةٍ لا يتذكرُ أهلُها شيئاً/لا أصحابَ لهم سوى وحدتهم /وهذا الفضاءُ الفسيحُ من الفراغ/ وبقايا صخرةٍ تجمعُ دموعَهم”.
سامية إبراهيم في نصوصها الشعرية تتسم بالحيوية وتحتفي بأناها، وتتبنى قيم تحتاج للجرأة والإقدام في مواجهة الآخر وتبحث دوما عن جوهر الذات الأنثوية واستقلالية رؤاها، تعتمد على مرجعيات ثقافية اجتماعية تبني بها نصوصها، تغوص في أعماقها، تكتشف كوامنها وخفاياها، فهي لا ترضى أن تكون أسيرة المعنى الظاهري للنص، بل تركّز على البنى الداخلية للنصوص وكيفية انتظامها، والتزامها أن الشاعرية لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل معرفة أسرار كل موضوع تواجهه، تتجاوز جسم النص إلى الولوج في المعنى، وفهم روح النص في تأويلاتها وقراءاتها للحياة، ولواقع صعب، تصارع من أجل توثيق انتصاراتها برتبة شاعرة قادرة على الصمود على تخوم براري حياتها الرديئة الأوقات، البطيئة التحولات مثل نهر أربكه الصخر، أو سريعة مثل سنونوة تشق المسافة مثل سهم.. سهم ليس دوما عليه أن يصيب الهدف، وإنما تترقب ذلك مثل كل شاعرات بنات جيلها اللاتي ما زلن، وبكثير من الإصرار يكشفن عن صدور مراياهن للضوء.