سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

سياسة مراقصة الثعبان تحكم مسار تطبيع العلاقات بين دولة الاحتلال وحكومة دمشق

حمزة حرب_

لازال مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق يتأرجح بين ما تفرضه الثانية على الأولى، فلا موافقة على المطالب، ولا تطبيق على أرض الواقع، فتبقى المصالح الاقتصادية رهن الاتفاق إلى جانب الضغوطات، التي تفرضها دول خارجية على دمشق لتغيير سياستها تجاه أنقرة.
مصالح دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق تتلاقى فعلياً إلى حد كبير، بعد أن لعبت دولة الاحتلال التركي دوراً محورياً في الأزمة السورية، وتسببت في تعقيدها؛ لإدخالها الجماعات الإرهابية والمرتزقة إلى سوريا ودعمها، واحتلالها المباشر مناطق في شمال سوريا، وحولت المجموعات السورية المسلحة “المرتزقة”، تخدم مصالح تركيا الخارجية، إلا أن الخلافات الواسعة لا تزال قائمة رغم مؤشرات التقارب بين الجانبين سيما أن هناك الكثير من الملفات العالقة، التي قد تعرقل عقد اتفاقات حتى على التطبيع الكامل، الذي يرجح محللون أنه لن يرخي بظلاله على واقع الحال، التي يرغب فيها الطرفان نظراً للمعوقات التي تعترض هذا المسار، وعلى رأسها مسألة انسحاب الاحتلال التركي من المناطق المحتلة ومستقبل المجموعات الإرهابية والمرتزقة، التي جمعها أردوغان وحزب العدالة والتنمية في إدلب أقصى شمال غرب سوريا، وأغرق بها المناطق المحتلة في الشمال السوري إلى جانب الدور الأمريكي البارز والمؤثر على هذا المسار، فيما من الممكن أن ينجح الجانبان في مسار التطبيع الاقتصادي، سيما وأنهما يمران في ضائقة كبيرة، وهو ما ترغب فيه موسكو وايران لأن هذا المسار سيفتح الباب على مصراعيه أمام تنشيط الطرق التجارية الدولية والتي تعدُّ سوريا عقدة وصل فيها تجاه السوق الخليجية، التي ترغب دولة الاحتلال الوصول إليها بأقصر وأسرع الطرق.
مسار التطبيع وواقعية التطبيق
يأمل أردوغان في التوصل إلى اتفاق قد يمهد الطريق لعودة العديد من اللاجئين السوريين في بلاده البالغ عددهم 3.6 ملايين لاجئ، لكسب ود الشارع القوموي في الداخل التركي، وهذا ما يصرح به جهاراً نهاراً بعد أن شرع أبواب بلاده عام 2011 لهؤلاء السوريين، ولطالما استخدمهم ورقة ضغطٍ في وجه الاتحاد الأوروبي، وتاجر بمصيرهم لسنواتٍ طوال، واليوم يعيد استخدامهم بعد أن أستنزفهم في وجه أوروبا، لكن ليساوم هذه المرة بهم المجتمع الدولي بغية شرعنة احتلاله لأراضٍ سورية.
من الناحية العملية على الأرض هناك عقد عدة توضع في مسار هذا التطبيع، ومن غير السهل بمكان أن يتم عملياً، لكن هناك مصالح مشتركة قد تتحول لفقاعة تطفو فوق مستنقع الخلافات السياسية بين الجانبين بالنظر إلى التعامل البراغماتي الكبير لكلا الطرفين في ملفاتٍ عدة.
أبرز هذه الملفات هو ملف المجموعات الإرهابية التابعة للاحتلال التركي، والتي على ما يبدو باتت خياراتها محدودة ففي حال جرت المصالحة بين الجانبين؛ سيكون عليها إما التسليم بالأمر الواقع، وقبولها المصالحة على غرار ما جرى في درعا، وغيرها من المناطق السورية التي كانت تتواجد فيها، لكن هذه المرة لن يبقى لديها وجهة تُرحل إليها، وسيبقى لديها أمل أن تقنع دولة الاحتلال حكومة دمشق العفو عن بعض قادة الفصائل الإرهابية.
وفتح باب التسويات أمام المرتزقة والمجموعات المتطرفة، لإلقاء السلاح، أو الانضمام لقوات حكومة دمشق برعاية روسية، أو الخيار الثاني، أن تهرب قادة المجموعات الإرهابية من تركيا، واللجوء إلى الدول الأوروبية، أو إلى قطر، والادعاء بأنهم سيواصلون “معارضة حكومة دمشق من الخارج”، والتخلي عن الحل العسكري، وبالتالي تسليم المناطق التي تسيطر عليها المجاميع الإرهابية في المناطق المحتلة لحكومة دمشق، واستسلام عناصرها بعد أن يتم بيعهم من قادتهم ومشغليهم.
فهذه الخيارات لا زالت معقدة وآلية تطبيقها مستعصية. لذلك؛ فإن هناك أولويات يجري العمل عليها فحكومة دمشق تبحث عن استئناف العلاقات مع تركيا، كخطوة نحو إنهاء عزلتها السياسية في المنطقة، بعد أن تمكنت من كسرها عربياً بعودتها لمقعدها المجمد في جامعة الدول العربية، كل هذا يأتي رغم خلافاتهما حول الاحتلال التركي لشمال غرب سوريا، فإن لدى دمشق وأنقرة مصلحة مشتركة على الصعيد الاقتصادي المتدهور بين الجانبين.
لذا؛ فإن هناك مصلحة متقاطعة حسب محللين سياسيين لكنها تكمن في إمكانية تحقيق “مكاسب اقتصادية” متواضعة من خلال التقارب، فرغم أن التجارة لم تتوقف على الإطلاق، إلا أنها تجري حاليا من خلال وسطاء، في حين يسمح استئناف العلاقات الدبلوماسية بالقيام بعمليات تجارية رسمية، وهذا ما سارع له كلا الطرفين من خلال التحضيرات لفتح معبر أبو الزندين الرابط بين مناطق سيطرة حكومة دمشق والمجموعات الإرهابية.
لكن حتى هذا المنحى الاقتصادي الذي يسعى الجانبان إلى تفعيله لا يخلو من أنظار روسيا وإيران سيما أن الجانبين لهما مصلحة مشتركة في تحسين الواقع الاقتصادي في سوريا فهناك فاتورة حرب يجب أن تدفع في نهاية المطاف، وهو ما يفتح الباب أمام خيارات الرابحين والخاسرين من تداعيات التصالح بين أنقرة ودمشق.
وساطاتٌ مبنية على المصالح
موسكو إحدى القوى الداعمة لحكومة دمشق، التي لها في الوقت نفسه علاقات وثيقة مع دولة الاحتلال التركي، فقد تسعى جاهدة من أجل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين سيما أنها تتعرض لعزلة هي الأخرى في حربها في أوكرانيا، وتعدُّ تركيا اليوم بوابتها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، وحتى أوروبا التي ترفض التعامل المباشر مع موسكو.
ففي كانون الأول 2022 أجرى وزراء الدفاع في النظام التركي وحكومة دمشق والجانب الروسي محادثات في موسكو، في أول اجتماع وزاري بين تركيا وسوريا منذ عام 2011 كما توسطت روسيا في اجتماعات بين مسؤولين سوريين وأتراك العام الماضي إلا أن المحادثات لم يكتب لها النجاح حينها حسب مصادر روسية.
وواصل الحال بمسؤولي حكومة دمشق إلى انتقاد الاحتلال التركي لشمال غرب البلاد علناً، وصرح الأسد في مقابلة مع شبكة سكاي نيوز عربية في آب من العام 2023 أن الهدف من محاولات التقارب من جانب أردوغان هو “إضفاء الشرعية على الاحتلال التركي في سوريا”.
لكن موسكو لم تيأس من المحاولة والضغط على حكومة دمشق؛ لذلك عادت مجددا لرعاية محادثات بين الجانبين، لكن هذه المرة بوساطة عراقية على غرار تلك الوساطة، التي أجرتها بغداد سابقاً بين الخصمين الإقليميين السعودية وإيران وبدفعٍ من موسكو.
مساع روسية بدت تضغط باتجاه إحياء ما تسمى اتفاقية “أضنة” بين تركيا وسوريا، بعد إجراء بعض التعديلات عليها، لتكون أحد صيغ التوافق بين الجانبين، فإن هذا الأمر أيضاً يحتاج إلى الكثير من الترتيبات، ولا يمكن أن يحدث بدون تطبيع كامل بين الدولتين، وبدون انسحاب تركي من سوريا، أو بالأحرى لو وافقت تركيا على إعادة تفعيل “اتفاقية أضنة”، فإن ذلك سيفرض عليها الانسحاب، وذلك لعدة أسباب، منها:
ما تسمى اتفاقية أضنة تم التوقيع عليها عام 1998، كانت تركيا في مركز القوة، وحكومة دمشق في موقف الضعيف، لذا قَبِلت دمشق شروط الاتفاقية، التي كان واضحاً أنها بنيت بموجب المصالح التركية فقط، ولكن اليوم الأمر معكوس تماماً، فحكومة دمشق تنظر إلى نفسها بأنها في موقع القوي لعاملين رئيسيين أولاً: لأنها وفق للمواثيق الدولية، هي من لها الحق بالمطالبة بأراضيها المحتلة ثانياً: تلوح بأنها من الممكن أن تتفاوض مع الإدارة الذاتية وهذه الورقة التي تعد كابوساً لدولة الاحتلال يدفعها للدخول في حالة هيستيرية عندما يتم التلويح بها.
ومن هنا أُدخل العراق هو الآخر للعب الدور الوظيفي المتناغم مع المصالح التركية، والعزف على وتر المصالح الاقتصادية سيما أنه أبدى تقارباً كبيراً مع دولة الاحتلال التركي مؤخرا وقدم تنازلاتٍ تمس سيادة العراق، وباشور كردستان مقابل نجاح مشروع طريق التنمية، الذي لا زال حبراً على ورق يساوم فيه المحتل التركي لتحقيق مكاسب توسعية في المنطقة، ومن هنا يتبين أن رؤية حكومة بغداد تتماهى مع الإطار العام لمشروع دولة الاحتلال التركي، ومساعيها للانفتاح على دمشق.
محللون يرون أن إيران هي الأخرى ليست ببعيدة عما يجري حيث استشعرت خطر اقصائها عن هذا المسار أو الريع، الذي من الممكن أن تجنيه إذا ما تحسنت العلاقات الاقتصادية في سوريا، التي تعدُّ بوابة شمالية لدول الخليج العربي فسارعت لاستهداف معبر أبو الزندين مراتٍ عدة، وكانت الرسالة واضحة بأنها موجودة ولا طرق تجارية إلا بموافقتها؛ لذا أرغم أطراف المشروع على إدراجها ضمن قائمة الوسطاء المؤيدين لهذا التطبيع.
دمشق… ولعبة مراقصة الثعبان
على الرغم من تقاطع المصالح لدى الدول الفاعلة على الأرض ربما يشعر طرفا المعادلة حكومة دمشق والاحتلال التركي، بعدم الأمان، لذا يسيران على حبل مشدود للوصول إلى التطبيع القائم على عدم الثقة المتبادلة فلا الاحتلال التركي يريد الخروج من المناطق المحتلة، ولا حكومة دمشق قادرة على التراجع عن ادعاءاتها باستعادة كل شبرٍ من الأراضي السورية.
فالمسؤولون في حكومة دمشق لطالما طرحوا شرطين أساسيين أمام دولة الاحتلال قبل البدء بأي عملية مصالحة أو تطبيع، وهما “الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف الدعم للإرهابيين” إن شروط دمشق للتطبيع، هي مطالب طبيعية لأي علاقة حقيقية بين دولتين، لذلك؛ فإن جدية دولة الاحتلال ورغبتها بالتصالح مرتبطة بقبول المنطق السليم في العلاقات الدبلوماسية من عدمه.
وهذا بالتحديد ما يؤكد عليه مراقبون أن حكومة العدالة والتنمية المبنية على فن المكر والخداع، لن تقدم أو تلتزم بعلاقاتٍ طبيعة مع دول جوارها، لذلك وحسب المعطيات الراهنة تشير بأنه لا نيّة لأردوغان بالانسحاب من سوريا، لذا يسعى إلى طرح موضوع المصالحة مع دمشق لإعادة اللاجئين السوريين بعد ازدياد الاحتقان في الشارع التركي ضد السوريين.
سيما إذا ما سلطنا الضوء على أن مسار التطبيع سطع نجمه قبيل الانتخابات التركية، واضمحل بعد حسم نتائجها وذلك كان بغية إيهام الشارع التركي أنه قادر على إعادة علاقاته مع دول الإقليم، فبدأ بالترويج للمصالحة مع دمشق، ضمن خطة الدعاية الانتخابية، أما السبب الآخر لعرض المصالحة، هو فشله في الحصول على موافقة من روسيا وإيران، لشن عدوان جدي ضد مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا.
فبناء عليه، عُرقل مساع التطبيع السياسي بين الجانبين واقتصر الحديث عن التطبيع الاقتصادي العلني، والتنسيق الاستخباراتي الذي لم ينقطع قط طيلة سنوات الأزمة، وذلك مرده لأسباب عدة لأن دولة الاحتلال لن توقف دعمها المجموعات الإرهابية والمرتزقة المتواجدة في شمال غرب سوريا، وعموم المناطق المحتلة خصوصاً بعد أن باتت بنادق مأجورة تعمل تحت إمرتها في الداخل السوري وخارجه.
بينما دولة الاحتلال لم تبدِ أي نية للانسحاب حتى بعد أن تغير موقف حكومة دمشق لضغوط الوسطاء وباتت المطالب من ضرورة الانسحاب إلى ضرورة إبداء نية للانسحاب، لكن حتى النية لم تقدمها دولة الاحتلال لأن سياسية رجب أردوغان الالتوائية والبراغماتية المفرطة، وتحولاتها الجذرية، باتت واضحة لذا لا يمكن لدمشق الوثوق بسياسات أردوغان، لإدراك دمشق أنه بدون تحقيق دولة الاحتلال شرط الانسحاب لن يمكنها النظر والتعامل مع تركيا كدولة جارة؛ لذلك سيكون عليها تحمل تبعات لعبة مراقصة الثعبان في القادم من الأيام.