No Result
View All Result
المشاهدات 1
خضر الجاسم –
الحقيقة إنّ ما يفصل بين دول العالم هو الحدود، ليس لأنّها مجردُ أطرٍ خارجيّة، بل لأنّها إحدى مقومات شرعنةِ الدولِ، إلى جانب الشعب والسيادة الوطنيّة.
شهد العالم خلال القرون الماضية، حروباً وتعديات متواصلة على لشعوبٍ على شعوبٍ أخرى دون تتبلور مفاهيم واضحة لمعنى الحدود والسبب المباشر بدائيّة المجتمعات والحياة البسيطة في كلّ نواحيها ولعل مفهوم المراعي كان أحد الأشكال المعبرة عن أملاك القبيلة، وطرأت تغيرات كثيرة على الكيانات والدول عبر الزمن إلا أنّها أخذت شكلها الأكثر صرامة مع دخول القرن العشرين مع إمكانيّة ترسيم الحدود وتحديدها على الأرض ورسم خرائطها بدقّة وكذلك مراقبتها وحمايتها واجباً وطنياً ملقىً على عاتق الجيوش النظاميّة والمؤسسات الأمنيّة، وليكونَ انتهاك الحدود ظاهرة استعماريّة واحتلالاً مكتملاً في توصيفه، وبذلك عُرفت دولٌ بأنّها استعماريّة ومحتلة لدول أخرى، لأنّها تجاوزت قانونيّاً الحدود الشرعيّة لدول أخرى وانتهكت سيادتها الوطنيّة.
من علاقة الجوار إلى الاحتلال
يمكن اعتبار القرن العشرين قرنَ التحرّرِ، ذلك لأنّ كثيراً من الدول التي كانت مستعمَرةً، أنجزت استقلالَها وتحرّرها وحقّقت سيادتها لدرجة كبيرة على ترابها الوطنيّ، بعدما خاضت معاركَ وقادت نضالاً مريراً ضدَّ الدول المستعمِرة. وأصبحت العلاقات بين الدول على مستوى الندّيّة في التوصيف الاعتباريّ، بصرف النظر عن التفاوت في القوة والنفوذ بين الدول، ولكن الاستقلال الوطنيّ لم يكن يعني الانغلاق الكامل عن العالم ولا الاعتماد الكليّ على الذات نظراً، لتفاوت الإمكانات بين الدول، فراحت الدول تبحث عن أسبابِ تعزيز قوتها الاقتصاديّة لتحقيق شروط حياة أفضل لشعوبها، وبهذا تطوّرت علاقات الانفتاح بين الدول والتنسيق وصولاً لتشكيل تحالفات ووحدة في الجغرافيا، وبذلك تمّ تجاوز مفهوم الحدود وتسهيل عمليات العبور وتخفيض الرسوم الجمركيّة، والنموذج الذي تمّ اعتماده من خلال الاتحاد الأوروبيّ يجسّد هذه الفكرة ويرمز له علم واحد ومؤسسات ومجالس تخدم مصالح شعوبه، وتمّ تجاوزُ اختلاف أشكال وأطر الحكم بكل بلدٍ.
وفيما يتصل بالعلاقة التركيّة السوريّة فإنّها نظريّاً يُفترض أعلى درجات التنسيق والتعاون بالنظر إلى الحقيقة الجغرافيّة وطول الحدود الذي يصل إلى 600 كم ومن الطبيعيّ أنّ علاقات اجتماعيّة مميزة تجمع بين السكان بين طرفي الحدود بحكم القرب، إضافة لعوامل أخرى منها حجم المصالح المشتركة بين البلدين وعوامل التشابه التي فرضها التاريخ، ولكن الواقع مختلف تماماً فأنقرة اليوم تقود سياسة عدوانيّة تجاه الشعب السوريّ والكيان السياديّ لسوريا، وانقلبت إلى عدو لدود وتدخلت في شؤونها الداخليّة وصولاً للعدوان وعبور الحدود الدوليّة واحتلال مناطق في سوريا ورفع العلم التركيّ عليها في انتهاك فاضح لكلّ القوانين والأعراف الدوليّة.
أنقرة تحاول اليوم عبر سياستها إعادة قرون الاستعمار من جديد وإحياء ميراث الدولة العثمانيّة، بالتوازي مع محاولات حثيثة للانضمام للاتحاد الأوروبيّ، باءت بالفشل الذريع، بسبب انتهاكها لحقوق الإنسان وعدم استكمالها شرائط لانضمام وتوجس الدول الأوروبيّة من عضويتها، ومشاكلها القديمة الحديثة مع دول الجوار ومنها تدخّلها في الشأن اليونانيّ، والقبرصيّ، والعراقي، والفلسطيني، ودول الخليج، والمغرب العربيّ، وليس آخرها سوريا، لتُوصف بالجار المتعب حقاً.
فرية سياسيّة اسمها الأمن القوميّ
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي يدفع تركيا لاعتماد هكذا سياسة؟ الحقيقة هناك كثير من المسائل والحقائق التي تخفيها كواليس السياسة التركيّة، وبالمجمل فإنّ تدخّلها الأخير في منبج، يفصح كثيراً عن تلك الحقائق، باعتبار منبج بوصلة عالميّة، على مستوى الأداء السياسيّ للدول في سوريا، وهنا تماماَ جاء الوجود العسكريّ الفرنسيّ إلى جانب الأمريكيّ، مع تصريحات وسجال طويل في أورقة السياسة.
اعتمدت تركيا في تدخّلها في سوريا حجّة هي افتراء محض وفرية سياسيّة، وقالت إنّها أرادت الدفاع عن أمنها القوميّ وادّعتِ الخوفَ من الاستهداف الإرهابيّ على حدودها الجنوبيّة، وهي بذلك تبتز مواقف دول العالم، والحقيقة أنّها هي من تدعم الإرهاب وترعاه في المنطقة، وباتت مضخة له تضخّ به عبر الحدود إلى سوريا، ولكن الأطراف الدوليّة لا يسعها في سياق تنافسِها لكسب تركيا إلى جانبها إلا أنّ تقول إنّها تأخذ المطالب التركيّة المزعومة بعين الاعتبار، وبذلك تستغل أنقرة موسكو وواشنطن وتتلاعب بين الطرفين.
الحجّة التركيّة مردودةٌ عليها ومن البساطة بمكان دحضُها وتفنيدها، فالحقيقةُ بسيطة وواضحة للعيان. وهنا نسأل أليس من المفترض أن تكونَ تركيا هدفاً لهجمات إرهابيّة؛ ولذلك تتخذ إجراءات وسياسات للدفاع عن حدودها على حدّ زعمها؟ لكن الواقع مغايرٌ تماماً لما تعتمده السياسة التركيّة من مغالطات سياسيّة بالجملة فحركة الإرهاب لها جهة واحدة عبر الحدود فيما من الجهة المقابلة كانت حركة الهجرة واللجوء هرباً من الحرب. ثم أليس غريباً أن تتحدث دولة عن استهداف إرهابيّ فيما أضحت سوريا مستنقعاً للإرهاب بفعل المضخة التركيّة نفسها؟ هل يمكن المقارنة بين شكلي الحياة على طرفي الحدود؟ وأين يفرّ المرتزقة وسائر القتلة والمرتزقة عندما تتمُّ محاصرتهم على الأرض السوريّة في إطار عمليات محاربة الإرهاب التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطيّة؟ ألا يتوجهون إلى الحدود ويدخلون تركيا ليتمّ إدخالهم مجدداً إلى منطقة أخرى؟ لماذا تستهدف مدفعيّة الجيش التركيّ الأهدافَ نفسَها التي يستهدفُها الإرهاب؟ مؤكّد أن لا صدفةَ في المسألة وهو عملٌ يتكرر على مدار سنوات الأزمة السوريّة. ولم يعد مفاجئاً أنّ تركيا هي من تدعم الإرهاب وهذا موثّق، وهي في الحدِّ الأدنى تتعامل معه في صفقات شراء النفط السوريّ المسروق، وبالتالي فالحدود التي تخشاها أنقرة أن تهددَ أمنَها القوميّ هي بواباتٌ يتخذها الإرهابيون ممراً لدخول لسوريا. وأليس غريباً هذا اللغط عند الساسة الأتراك، وأن يخرجوا مطالبين بإخلاء منبج من وحدات حماية الشعب، تلك القوات التي يعودُ الفضلُ لها إلى حدٍّ كبيرٍ؛ بتحرير منبج من الإرهابيين، بمشاركة قوات مجلس منبج العسكريّ. ولعل الحقيقة الأكثر رسوخاً هي أنّ أنقرة تخشى تلك المجاميع الإرهابيّة التي ساهمت بتنظيمها وإعدادها ودعمها، وتخشى انقلاب السحر على الساحر لتذوق من السم الذي طبخته للسوريين، وهي تدرك أنّ الماء تمشي من تحت أقدامها، وقد تغوص في أوحال سياستها.
اتفقت ثم انقلبت
أما الحقيقة الثانية، والتي يتناساها الساسة الأتراك، فهي أنّه وقبل الإعلان عن موعد الحملة العسكريّة لتحرير منبج وريفها، فإنّ ثمّة اجتماع رسميّ عُقد مع الجانب الأمريكيّ وحضره قائد مجلس منبج العسكريّ، الشهيد عدنان أبو أمجد، وتمّ خلاله التوافق على تولّي مجلس منبج العسكريّ، مهمة تحرير المدينة. وليس سراً أنّ الاجتماع عُقد في قاعدة إنجرليك الجويّة التي تتمركز فيها قوات أمريكيّة وحضره ممثلون أتراك عسكريون وهذه حقيقة معلنة اليوم، واليوم يناقض السياسيون الأتراك أنفسهم فيما وافقوا عليه أنفسهم خلال الاجتماع، ويخرجون على العالم بشيء يخالف حيثيات الاتفاق الذي تمّ إبرامه معهم، ولعل المرء يحارُ في توصيف هكذا سياسة، والأقرب أنّها سياسة بهلوانيّة؛ تقوم على الانقلاب على الذات؛ بين عشية وضحاها.
عرّاب الإرهاب
أما الحقيقة الثالثة، ولعلها أضحوكة، حيث يخرج أردوغان زعيماً سياسيّاً، يقف داعماً للشعب السوريّ، مدافعاً عن حقوقهم، نصيراً للضعفاء، ومغيثاً للفقراء والمساكين، وحاميَ المحرومين. وكأنّما يجسّد شخصية روبن هود؟ وقد تناسى كيف تسلّق على حساب السوريين وقد مزقهم شرَّ ممزق وحوّل الحراك الشعبيّ إلى حرب طائفيّة يُقتل فيها الإنسان بلا ذنب على الهوية والانتماء. وجعل من الأزمة السوريّة مطيةً لتحقيق مصالحه الشخصيّة. ويصل التلاعب السياسيّ حدّه الأقصى ليكون خداعاً فاضحاً، إذ أنّه من السذاجة تصديق أنّه يأوي السوريين ويحرص عليهم وأنّه توصل مع موسكو لاتفاق لإعادة اللاجئين السوريين؛ فيما ردّت موسكو بتمرير خطة أنقرة بالصمت حيال انتهاك الحدود والعدوان على عفرين وهي جزءٌ من الأرض السوريّة، رغبةً في إرضائها إذ تربطهما علاقات ومصالح اقتصاديّة وتنسيق عسكريّ وسياسيّ عنوانه أستانه اليوم، وكان بالوسع أن تتمَّ إعادة اللاجئين إلى إدلب بسهولة؛ إذ أنّه الطرف الأقرب للإرهابيين وهو عرّابهم وكلّ الاتفاقات مع الإرهابيين تمّت عن طريقه فهو صاحب موهبة فذة في مجال تنظيم نقل المرتزقة في رحلات على متن الباصات الخضر؛ وقد أنجز عدّة اتفاقات اعتباراً من إخراج الإرهابيين من حلب وريف دمشق والغوطة وفي كلّ مرّة كان يقبض الثمن المقابل لوساطته، فكان مرّة احتلال مدينة الباب ومؤخّراً مقاطعة عفرين.
انتقالٌ إلى استثمار الإرهاب
الحقيقة الرابعة التي يتجاهلها العالم بصمته وازدواجيّة معاييره، يمكن إيجازه بسؤال بسيط من هي المجاميع التي قادها الجيش التركيّ ودخل بها مقاطعة عفرين محتلاً؟ إنّها بالمطلق بقايا المرتزقة الذين هربوا من المناطق المحرّرة، وفصائل إرهابيّة تعمل تحت الطلب بأوامر مباشرة من أنقرة، ويشرف عليها الجيش والميت التركيّ فالعلاقة وثيقة جداً بينهما، وموسكو التي تدخّلت في الحرب السوريّة لمحاربة الإرهاب وواشنطن التي شكّلت تحالفاً دوليّاً لنفس الغرض تعلمان تلك العلاقة، ولكن المعادلة السياسيّة تقتضي إرضاء أنقرة، ولم تعد الأزمة السوريّة قضية متكاملة بالنسبة لهم، بل تمّت تجزئتها مناطقيّاً ما بين غرب الفرات وشرقه، جنوب سوريا وشمالها، وإدلب اليوم أضحت منطقة تجمع كلّ تفاصيل الأزمة. بعبارة أخرى العدوان على عفرين كان انتقالاً واضحاً من محاربة الإرهاب إلى استثماره وإرضائه على حساب شعب آمن مسالم أُخرج من بيته قسراً إلى المخيمات على مرأى العالم.
أبناءُ منبج حماتُها
أما الحقيقة الخامسة فإنّ مدينة منبج محصّنة لدرجة كافية بفضل أبنائها في قوات مجلس منبج العسكريّ، وأهلها وكل أبناء العشائر، والترويج لكذبة مفضوحة بأنّ قوات تركية دخلتِ منبج واتجهت إليها من منطقة العون فهذه ليست سوى أضغاث أحلام الساسة الأتراك، وقد تناسوا؛ أنّ منبج أضحت قلعة يحرسُها أبناؤها وقد أكّدوا استعدادهم للذود عنها بالأرواح والمهج ومن سطّر ملحمة التحرير سيستمر في حماية هذا الإنجاز، فمجلس منبج العسكريّ ينظّم دوريات على مدار اليوم للمراقبة والتصدّي لأيّ هجوم أو اختراق أمنيّ، إضافة لصيغةِ تعاونٍ عسكريّ ووجود نقطة عسكريّة أمريكيّة- فرنسيّة. وعلاوة على ذلك فالإدارة المدنيّة الديمقراطيّة في منبج وريفها، تقوم بعملها خير ما يكون العمل، وكلّ محاولات الصيد في الماء العكر مردودة وشعبنا لديه ما يكفي من المناعة الوطنيّة والفكريّة.
لتتضح الخفايا الكامنة؛ وراء ذلك التكالب التركيّ؛ على مدينة منبج ببساطة شديدة، فهي واسطة العقد في شمال سوريا ولها اعتبارها وثقلها بتعدد مكوّناتها، ولا تختلف منبج عن عفرين فهي محطة مهمة في مشروع الحلّ السياسيّ الديمقراطيّ للأزمة السوريّة، وكلّ ما في القضية هو العدائيّة الكاملة لمرتكزات المشروع الديمقراطيّ، وحاجة أردوغان انتصارات وهميّة يسوقها إعلاميّاً في معركته الانتخابيّة المزوّرة سلفاً، فالشعب التركيّ لا يعلم حقيقة دور بلده التخريبيّ في سوريا ولا حجم المخاطر التي تحيقُ به جرّاء سياسات العدالة والتنمية، وما يخافه أردوغان هو زيادة الاحتقان الداخليّ إزاء الأزمة السياسيّة؛ التي طالما يتهرّب من حلّها عبر تصدير المشكلات الداخليّة إلى الجوار وعدم السير في عملية إصلاح ديمقراطيّة شاملة في تركيا. وما يُراد هو إشغال المواطنين الأتراك عن النكسة الاقتصاديّة والعجز التجاريّ وهبوط الليرة التركيّة المفاجئ لمعدلاتٍ غير مسبوقةٍ؛ ليكون والقول إنّ الاقتصاد هو محكُّ الاختبار لسياسات الحكومات هو صحيح تماماً.
وبالإجمال فإنّ السياسة التي يقودها رجب طيب أردوغان ويتطلع إلى تمديد صلاحيتها وتأطيرها قانونيّاً بالانتخابات، ما زالت تراوح في إطار الابتزاز السياسيّ في العلاقة مع الدول وكذلك مع الناخب التركيّ، لتحصيل شرعيّة غير مستحقة، فتركيا اليوم دولة محتلة لمناطق من سوريا وصمت العالم أقل من أن يشكّل غطاءً يبرر تجاوزها للحدود، ولن يدوم الزمن طويلاً، فالاحتلال كان مصيره الزوال حتماً.
No Result
View All Result