من السخف أن يصبح وطنك كرسياً للعبة سياسية تتنافس عليها بعض الأنظمة الإقليمية والدولية، وربما المضحك والمبكي في هذه اللعبة أن ينقسم أبناء هذا الوطن على أنفسهم، ويوزع جهدة وطاقاته على تلك القوى مقابل سياسات واهية لا تجلب لهم وللوطن غير القتل والدمار، ومزيداً من التشرذم والتباعد بين مكونات هذا الوطن.
سوريا ومنذ 2011 باتت كرسياً تركض حولها الأنظمة القريبة والبعيدة؛ بغية الاستحواذ بالجلوس على زاوية منها أو على كل مساحتها، الأحداث الدراماتيكية التي رافقت هذه الأزمة حتى الآن لربما تختلف عن كل الأزمات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت دول المنطقة قبل عشر سنوات، الطبيعة الجيوسياسية لسوريا أدخلتها في صراعات داخلية وخارجية قاتلة ولم تزل الضبابية تلف الحلول السياسية المقترحة من قبل المجتمع الدولي جنيف1 وأحياناً من بعض الدول مثل روسيا.
رغم كل هذا وذاك؛ بقيت سوريا تترنح بين جنيف وأستانا وسوتشي والدول الضامنة ومقايضات درعا ودوما، وتأجيل معركة إدلب ونقاط المراقبة الأمريكية وعشرات الحلول واللقاءات والمؤتمرات حالت دون اتفاق الأطراف على صيغة لإنهاء الصراع في سوريا، حتى اللجنة الدستورية لم تبدأ بصياغة الدستور بعد، وقد أكد دي مستورا قبل أيام حين قال مقراً (بفشله بتشكيل لجنة لصياغة دستور لسوريا) في السياق ذاته؛ كل الفرقاء ما زالوا يركضون حول الكرسي بغية إخراج منافس من الصراع.
الانسحاب الأمريكي من الرقص حول الكرسي، أظهر لكل المتابعين والمهتمين احتمالات وحلول قد لا تترجم إلى أفعال، في ظل هذه الفوضى التي تعيشها المنطقة، وليس مستبعداً أن تستمر التوافقات الإقليمية والدولية بخصوص إنهاء الأزمة السورية وربما بما يتوافق مع مصالحها، وحدها دولة الاحتلال التركي وكعادتها تختار القوة العسكرية حلاً مباشراً لإنهاء المشروع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا.
رقصات نهاية البداية
انتهت البداية الحقيقية للأزمة السورية بعد بحث ترامب عن سحب قواته من سوريا، هل سيكون لهذا الانسحاب تداعياته على الساحتين السورية والإقليمية وعلى مواقف الدول الأخرى؟
وهل يمكن التكهن بأن النهاية الحقيقة للأزمة قد اقتربت؟ ولكن لا يمكن التوقع من سيفوز بالرقصة حول الكرسي والجلوس عليه، ففي الوقت الذي كان يتوقع كل المتصارعين من ترامب زيادة وجود أمريكا العسكري في شرق الفرات والسيطرة عليها وقلب الطاولة على كل المتبارين والمنافسين له، وأفشال كل تحالفاتهم ومحاورهم، أدخل المنطقة مرة أخرى في عنق الزجاجة.
أسئلة كثيرة وتساؤلات أكثر تراود كل الساسة، لماذا وضع ترامب المنطقة ومشهدها السياسي في أجواء ضبابية وغموض سياسي، لربما الجواب الأقرب لكل المراقبين بأن قرار انسحاب ترامب جاء وفق تفاهمات مع موسكو وأنقرة، ولا يخفى على أحد بأن إستراتيجية أمريكا تعتمد على خلق فوضى سياسية في بلد ما كي تعود وتتدخل فيها من خلال الفصل السابع من مبادئ الأمم المتحدة.
لا يمكن التصرف بارتجالية وعفوية من قبل قوات سوريا الديمقراطية ولا مجلس سوريا الديمقراطية كردة فعل أمام قرار ترامب، فالتعقل في مواقف كهذه؛ يتطلب الحكمة السياسية قبل أي أمر آخر، وبالعودة لأسباب انسحاب أمريكا من سوريا يمكن قراءة مستقبل هذه المنطقة كونها تعيش في مظلة مجلس سوريا الديمقراطية وتحميها قوات سوريا الديمقراطية المتشكلة من كل الطيف السوري.
ما أكده ترامب بأن سبب انسحاب القوات الأمريكية هو القضاء على الإرهاب (داعش) طبعاً هذا ليس سبباً سياسياً مقنعاً وكافياً، بل هناك أسباب أخرى منها وبحسب حديث مدير التحالف الأمريكي الشرق أوسطي توم حرب إن بعض الدول العربية وعدت ترامب بتشكيل جيش عربي والدخول لسوريا وصياغة دستور جديد. لكن؛ هذه الدول لم تفي بوعودها، بل ساهمت بشكل أو أخر بترك الأزمة السورية بيد روسيا وإيران وتركيا، حينها قرر ترامب ترك الملف السوري في مسؤولية موسكو، وتصبح هي وشركائها مكلفون بمحاربة الإرهاب حال عودتهم.
من جانب أخر؛ يؤكد توم حرب بأن أمريكا سوف تحارب إيران في سوريا سياسياً وعسكرياً، أما فيما يخص الكرد وشمال وشرق سوريا فأن الدعم الأمريكي سيبقى قائماً ومستمراً، لأن أمريكا لم تنسحب من التحالف، بل سحبت جزئياً، ومن جانب أخر حذرت واشنطن أنقرة من مغبة تجاوزها مناطق الكرد بعد أن رسمت لها خطوط حمراء.
من يلعب ومن يجلس أخيراً؟!
أصبحت سوريا ساحة مفتوحة لكل التأويلات والاحتمالات السياسية التي تنتظرها جراء هذا الخلل والفوضى التي خلفتها تغريدة ترامب، فالتحالف ما زال قائماً وكذلك قوات سوريا الديمقراطية، والنظام وروسيا وإيران كفريق له وسائل للحل، ومن جهة أخرى الدول الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) لهم أجندة أخرى، في حين نجد لتركيا ومرتزقتها برنامج مغاير ومخالف لكل الاحتمالات وهي الأقرب جغرافياً لشمال وشرق سوريا وتجد من المشروع الديمقراطي ذريعة لها بالدخول عسكرياً.
لهذا كله سوف تشتد لعبة سحب الكراسي من بعض المنافسين، في حين يتطلع الأغلبية الفوز بالجلوس على الإرث السوري، ولا يمكن أن نستهين بالحذر والخطر المحدق بمشروع شمال سوريا، ما يمكن أن يفعله مجلس سوريا الديمقراطية سياسياً وما يمكن أن تعمله قوات سوريا الديمقراطية ميدانياً مرهونٌ بعلاقاتها بالمجتمع الدولي كي تحافظ على مكونات الشمال الشوري من الغزو التركي المرتقب، أما قوات سوريا الديمقراطية القوة الفاعلة على الأرض فيمكن أن تعزز أكثر من قوتها وتحالفها مع دول التحالف، ولا يمكن تجاهل الحوار مع دمشق، بل متابعة ما تمخضت عنه اللقاءات السابقة؛ ذلك أن الحلّ الوطني بعيداً عن التدخل الخارجي هو ما يجب أن يتم، وبالتالي توحيد القوى الوطنية السورية جميعها لرد العدوان التركي وهجماتها على مناطق شرق الفرات والتي لا تجلب سوى القتل والخراب والدمار، وما فعلته في عفرين لم يكن حرباً فحسب، بل إبادة بحق كل أهالي هذه المنطقة.
هذه الإبادة من الجيش التركي ومرتزقته تحولت الآن إلى تهديدات علنية ومباشرة على مناطق شرق الفرات، والمجتمع الدولي يدرك أكثر من غيره بأنه خرقٌ لكل القوانين الدولية، من هنا جاءت زيارة وفد من مجلس سوريا الديمقراطية لباريس للبحث في استمرارية التعاون بينهما لضمان أمن واستقرار المنطقة من العدوان التركي المحتمل، وحث الوفد في باريس الاتحاد الأوروبي باستخدام نفوذه بفرض حظر جوي على المنطقة، وإلا سوف تسمح هذه الفوضى للفصائل المسلحة والمتشددة بالانتشار مجدداً كونها تتلقى دعماً كاملاً من تركيا.
من جانب آخر أكد وفد مجلس سوريا الديمقراطية لباريس بأن أي عمل عسكري تركي ضد المنطقة سوف يحدث خللاً في عموم شرقي الفرات؛ لأن قوات سوريا الديمقراطية سوف تنسحب من هذه المناطق وتكثف تواجدها في شمال وشرق سوريا لحماية المنطقة من أي هجوم، في السياق ذاته؛ أكد مجلس سوريا الديمقراطية على تمتين الجبهة الداخلية وألا يكون الانسحاب الأمريكي احباطاً للهمم ورص الصفوف، والشراكة مع التحالف ما زالت قائمة وهذا ما يجعل المنطقة في أمان.
بين الحوار السياسي والصراع على الكراسي
مهما اختلطت الأوراق وتفاقمت لغة الحروب والتهديدات واستمرت لعبة الكراسي وتبادل الأدوار بين القوى الإقليمية والدولية، لا بد أن يركن الجميع إلى لغة الحوار بين السوريين، والتفاوض بين القوى الخارجية، من الملاحظ أن التفاوض بين المتصارعين قد أخذ حيزاً أكبر، والكل يحاول أن يدلي بدلوه في طرح نقاط مشتركة بين المتصارعين في سوريا كي يحقق مصالحه فيها، بعض الوساطات تجمع بين القوة العسكرية والسياسية وبعضها الآخر تطرح الجانب السياسي والبعض يؤمن بأن القوة هي الطريقة الوحيدة في تقارب وجهات النظر بين المتحاربين، ولكل طرف ودولة أجنداتها في صراعها على سوريا، وتجد من التصعيد مفاتيح للسلام، في حين أنّ الحلّ الأساسي لهذه الأزمة هو الحوار السوري ـ السوري وتشكيل دستور أساسي لسوريا يصون حقوق جميع شعوبها وأطيافها، وبالتالي قيام السوريين بحماية أنفسهم والاعتماد على ذواتهم دون التدخل الخارجي.
شبكة عنكبوت سياسية معقدة تعيشها سوريا هذه الأيام، وأمام السوريين كيفية حماية ذواتهم والتصدي للعدوان التركي والتدخل الخارجي، والدفاع عن أنفسهم في حال تعرضوا للهجمات من أية جهة كانت، وعدم الاعتماد على القوى الدولية التي تدخلت في سوريا وبحثت في أزمتها وفقاً لمصالحها وتحقيقاً لسياستها الرامية إلى تحقيق غاياتها وأهدافها.