حنان مامد –
لم يكن أحد يتوقع أن تصل الأمور في سوريا إلى ما عليه اليوم من تغييرات مرحلية دراماتيكية في نهج الدول المتصارعة إلى هذا الحد من الجنون في العداء السياسي والاستراتيجي وأساليب كسر العظم وعض الأصابع فيما بين الدول الإقليمية والعالمية.
بالرغم من انتشار ما يسمى ”الربيع العربي” في أغلب الدول العربية وانتهاج الفوضى الجنونية غير المنتظمة الأهداف والنتائج في تحقيق الحرية والكرامة للمواطن الشرق أوسطي؛ إلا أنها حققت مبتغاها في بعض الدول العربية في شمال أفريقيا بتغيير الأنظمة الكلاسيكية المُعتمدة على القوموية واستبدالها بأنظمة ذات صبغة إسلامية سياسية.
لكن في سوريا الأمر مختلف تماماً، أولاً لأن الموقع الجيوسياسي الذي تتمتع به سوريا قد فرض نفسه على المعادلة السورية الداخلية والإقليمية، ومؤخراً على المعادلة الشبه عالمية حيث إن تقاطع الطرق الدولية وحتى الأيديولوجية التي تعبر عن طريق سوريا أدت إلى وضع سوريا في خانة صعبة في النأي بالنفس والحل لقضاياها السياسية والعسكرية بعد اشتعال الأزمة فيها.
ثانياً وجود سوريا في قلب المحاور الأيديولوجية جعلت منها اللاعب الأكثر مهارة في إدارة هذه المحاور سابقاً؛ لكن حالياً أصبح هذا اللاعب لعبة تتلاعب بها كل الأطراف الاقليمية والعالمية وفق سياساتهم واستراتيجياتهم.
حيث إن وقوعها على طرق متناقضة الأيديولوجيات والأنظمة كخط طهران – بيروت، وخط تركيا – قطر، وقربها من إسرائيل والأردن والسعودية والبحر المتوسط وقبرص جعلها في قلب الصراعات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. لذلك كان مستحيلاً على سوريا أن تبتعد عن هذه الصراعات بحكم موقعها وجغرافيتها الاستراتيجية على ضفاف المتوسط غرباً وبوابة آسيا شرقاً وشمالاً والبلدان العربية جنوباً وفي منطقة تتجذر فيها الأزمات البنيوية الطائفية والقومية منذ مئات السنين.
ونستشهد هنا بمشروع إيران الذي يعتمد على موقع سوريا بشكل أساسي في نقل أيديولوجيتها وسياستها إلى الإقليم المجاور لها وصولاً إلى البحر المتوسط، وعدم وجود سوريا في هذا الموقع يعني بالتالي انقطاع إيران عن كل هذه المناطق وبالتالي انحسار دورها كقوة إقليمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك نرى مدى تشبث وتمسك إيران بالأرض السورية والنظام الحالي لأنها تعتبر ذلك أملها الوحيد في التأثير والوصول إلى ضفاف المتوسط وزعزعة استقرار إسرائيل.
وكشاهد آخر وقوي وحاضر في العالم؛ نرى أن روسيا تعتبر سوريا امتداد لها في الشرق الأوسط ونقطة ارتكاز تعتمد من خلالها على استراتيجيتها الجديدة في المنطقة كالوصول إلى كافة الدول العربية والشرق أوسطية واعتبارها لاعب محوري عالمي مؤثر في مجمل الأزمات والحلول المستقبلية وكيفية صياغتها بنهج يتوافق واستراتيجيتها البعيدة المدى للسيطرة على نفوذ أكبر في العالم وبروزها كثنائية القطب أمام المارد الأمريكي المهمين، وكذلك اقتصادياً تعمل روسيا على قطع الشريان الذي كانت تحلم به تركيا وقطر في مد خطوط الغاز إلى أوروبا فذلك يعني خفض الطلب على الغاز الروسي لذلك تحاول روسيا جاهدة وبكل السبل وأد كل الأوردة والامدادات التي تصل لأوروبا وحصرها فقط عن طريقها فتستطيع بذلك لوي ذراع أوربا اقتصادياً وسياسياً.
أما فيما يخص الخط الإرهابي الذي تهمين عليه تركيا وقطر فإن من أهم أهداف هاتين الدولتين هو كيفية السيطرة على خط دولي ملائم لأجنداتهما وسياساتهما في الشرق الأوسط من خلال الاقتصاد وطرقه المتنوعة والطرق الجيوبوليتيكية لتأمين الإمدادات الأيدولوجية الراديكالية وبالتالي أدلجة أنظمة المنطقة وفق التطلعات التركية العثمانية ودعمها بالمال القطري وتجنيد حركة أخوان المسلمين والحركات الجهادية السلفية التي تؤدي الغرض وتنفذ هذه السياسات المدمرة.
وأخيراً وهو الأهم فهو وجود أمريكا التي تُعتبر أهم لاعب وطرف مؤثر على ساحة الشرق الأوسط، فكل ما ذكرناه سالفاً لا يوائم استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية التي تحارب كل الأطراف بشكل غير مباشر هي ومن يدور في فلكها من القوى الدولية التي تؤيد سياساتها في المشرق.
لذلك ومنذ الاقتحام الأمريكي العسكري لسوريا في الست سنوات الأخيرة عطّلت بذلك كل الأهداف والاستراتيجيات التي تحاول تطبيقها تلك الدول الإقليمية؛ لذلك أمريكا ومن خلال حضورها في المشهد السوري تدرك جيداً مدى أهمية سوريا الاستراتيجية على مجمل ساحات العالم، وأصبحت بالتالي صاحبة القرار المهم بالرغم من تناقضاتها البينية بفترات متفاوتة وذلك لخلط الأوراق بين القوى المتصارعة وإعادة تجميع تلك الأوراق وفق حساباتها ونظرياتها السياسية والعسكرية وهي تدرك الآن أن من يسيطر على خطوط التماس والدفاع والهجوم في الجغرافيا السورية يستطيع بذلك أن يصبح قوة رائدة ومهيمنة على الشرق الأوسط وبالتالي سيعرّض أمن أمريكا الخارجي وحلفاءها لخطرٍ وجودي؛ فالولايات المتحدة الامريكية لن تعود إلى ارتكاب الخطأ ذاته عندما أسقطت حركة طالبان في أفغانستان ونظام صدام في العراق وقدمت هذين النصرين بشكل غير مباشر على طبق من ذهب لإيران بعد خروجها من العراق إبان عهد أوباما لذلك تحاول أن لا تكرر هذا الخطأ في سوريا وأيضاً صراعها البارد الوجودي مع روسيا والصين في ساحات العالم لا يحتاج إلى براهين وشرح ف سوريا أصبحت نقطة مهمة في صلب هذا الصراع.
نستطيع القول بشكل مختصر أن سوريا أصبحت بالفعل كينونة مكامن القوة والضعف بالنسبة للدول الإقليمية والعالمية، والصورة العالمية المئوية التي تتشكل وترسم بخيوط الصفقات والاتفاقات والصراعات تنطلق من جغرافية سوريا وتمتد بظلالها على الشرق الأوسط قاطبةً وبالتالي على العالم بشكل مؤثر وحقيقي.