No Result
View All Result
المشاهدات 0
رامان آزاد –
يعتقدُ كثيرون أنّ اتهام الرأسماليّة بأنّها سببُ كلِّ البلايا والمصائب كلامٌ أيديولوجيّ صرف، وشمّاعة لتبرير تردّي الأحوال في منطقتنا، ولكنّ واقعَ الأحداث اليومِ يؤكّدُ أنَّ النظامَ الرأسماليَّ وسياستَه في العالمِ هو مصدرُ كلِّ الشرورِ وأنّه إبليس حقيقيّ، والمسألةُ تتجاوزُ مجرّد الفرضيّة، إذ تثبت الأمثلة الكثيرةُ واقعيّة القول وصحّته.
لعله من المناسب اقتباسُ صورةِ إبليسُ في توصيفِ النظام الرأسماليّ، فهو وفقَ المعتقدات الدينيّةِ والشعبيّةِ المتوارثةِ رمز الشرِّ، والمتعارف أنَّه أصلُ كلِّ خطيئة، يتربّصُ بالإنسانِ الدوائرَ ليحرفَه عن جادةِ الحقّ، سلاحُه الإغواءُ وتزيينُ الخطيئةِ، وقد فعلها مع أبينا آدم وأمنا حواء، فأزلّهما إغواءً وأنزلهما من الجنةِ إلى الأرضِ، إبليسُ كان سببَ معصيةِ والديَّنا الأوّلين، هي قصةُ يرويها القرآنُ والإنجيلِ.
الرأسماليّة احترافيّة السرقة
يتحكّمُ النظامُ هذا بقيادةِ الدولِ الكبرى وفقَ مصالحِه، وينهبُ خيراتِ الدولِ الفقيرةِ ويُشقي شعوبَها، وهو براغماتيّ وصوليٌّ في رسمِ سياساتِه وتعديلِها وتحديثِها، ويدعمُ الاستبدادَ ويمارسُ الاحتكارَ، ويتربّعُ عرشُه على ثراءٍ فاحشٍ ويكتنز أكبر كتلةٍ ماليّةٍ، ويعتاشُ على نهبِ خيراتِ الشعوبِ الفقيرة وسرقةِ طعامِ الجياعِ والضعفاءِ، يُتاجرُ بالاقتصاد الإنتاجيّ وحتى بعرق الجباه والدماء في العروق والأعضاء والأوصال.
نظامٌ أقامَ وجودَه عبرَ واجهاتٍ سياسيّةٍ وامبراطورياتٍ اقتصاديّةٍ تقومُ على العبوديّةِ والاستيطانِ، لا يتورّعُ عن ارتكابِ مجازرِ إبادةٍ عرقيّةٍ بحقِّ عشراتِ الملايين، واستعبادِ عرقٍ بشريّ بكاملِه حمله عبرَ البحرِ على متنِ سفنِه وباعَه رقيقاً يخدمُ في المزارعِ والبيوتِ، وجعلَ من انكلترا امبراطوريّةً عابرةً للقاراتِ، ولا تغيبُ عنها الشّمسُ، ثم انتقل إلى الولايات المتّحدةَ فصيّرها وصيةً على العالمِ، ومن أجل الانتصارِ لم يتردّد باستخدامِ القنبلةِ الذريّةِ ليمسحَ عن الوجودِ مدينتي هيروشيما وناغازاكي من العرقِ الأصفرِ، ولا تخرجُ القضيةُ الكرديّة والفلسطينيّةُ وصراعاتُ المنطقةِ من أفغانستانَ إلى العراقِ فسوريا وليبيا واليمنِ عن مخططِه ورؤيتِه للمنطقةِ وفقَ ميزانِ مصالِحه، وما من صراعٍ مسلّحٍ بالمنطقةِ والعالمِ إلا وهذا النظامُ سبُبه ويمدُّهُ بالسّلاحِ والعتادِ، فيصبَّ الزيت على النار فيما المستضعفون حطبُ الاحتراق، وهو الذي يحدّدُ مدة صلاحيّة كلّ نظامٍ سياسيّ وشكله.
سرقةُ الثوراتِ والأحلام بالتغيير هو نموذجٌ جديدٌ للسرقاتِ، فبعضُ الأنظمةِ لا يتوافقُ وجودُها مع المخططِ الذي وُضعَ قيدَ التنفيذ، وبات إنهاؤها ضروريّاً، المسألة بغاية البساطة، تشبهُ قيامَ البلديات بتوسيع شارعٍ بإزالة بعضِ البيوتِ من أجلِ مشروع طريق، صحيحٌ أنّ التغييرَ طالَ أنظمةً مواليةً، إلا أنّ المخطط فوقَ الصداقاتِ والعلاقاتِ. والمشهدُ على مرأى العالم أنّ الناس تخرجُ للشارع تندّدُ، تغضبُ، تصرخُ ملءَ الحناجر، اشتباكات بين الأهالي ورجال الأمن ودماء تُراق، لتزيدَ سخونة المواقف، وتتعقّد الأحداث أكثر، والنهاية بكلّ أحلامها ودموعها ودمائها مسروقة سلفاً، فيما يُحتفلُ الناسُ بفجرِ خلاصٍ وهميّ.
القادمُ إلى مدينةِ نيويورك يستقبله تمثالُ الحريةِ قبالة شواطئها، نيويورك التي تتخذُ منها المنظماتُ الأمميّةُ مركزاً لها، وحيثُ من المفترضِ حلُّ قضايا العالمِ الشّائكةِ بالطرقِ السّلميّةِ ووفقَ مبادئَ متفقٍ عليها، ولكنَّ كلَّ القضايا تُسقطُ باستخدامِ سلاحِ الفيتو الذي تحتكرُه القوى المنتصرةُ في الحرب العالميّة الثانية، ليُجهضَ أيّ قرارٍ لا يخدمُ الرّأسماليّة بحججٍ واهيةٍ، لتستمرَّ الحروب بزعمِ الحفاظِ على السلم الدوليّ.
تشويهُ الدّينِ وتحويلُه أداةَ المخطط
هو نظامٌ لا يرتوي من البترولُ ولا من الدم، والمالُ إلهٌ يعبدُهُ، وقد قرّرَ القضاءَ على بقيةِ الأديانِ، فاضطهدَ الكنيسةَ المسيحيّةَ باسمِ العلمانيّةِ وأشبعَها صفعاً على خدّيَّها، ولاحَقَ القساوسةَ والرهبانَ وحاكمَهم، روّضهم، استلحقهم، وانتزعَ من الصّليبِ معنى التضحيةِ، فأصبحتِ المسيحيّة صليبيّة، وجعلَ أعيادَ الميلادِ والفصحِ مناسباتٍ للزينةِ والشجرةِ والتُّخمةِ بالطعامِ، وأدخلَ تعديلاتٍ جذريّةً على الوصايا العشرة واستبدلها بالخطايا المُميتةِ والمُوبقاتِ، فمنحَ القتلَ والسرقةَ والزّنا وشهادةَ الزّورِ والاستعبادَ صكوكَ البراءةَ وأسقط عنها الإدانة الأخلاقيّة، وشرّعَ باسمِ الحريّةِ زواجَ المثليين رسميّاً.
أمّا الإسلامُ فتعاملَ معه بطريقةٍ مغايرةٍ، إذ سلطَ عليه مشايخَه وأصحابَ اللِحَى الطّويلةِ، فكان اجتهادُهم بِدعةً، وفتواهم تطرّف وسلوكُهم توحّشٌ وتخلّفٌ، برّروا تناحرَ السّنّةِ والشيعةِ، وصارَ الإِسلامُ إسلاميّاتٍ، واُعتمدَ على الأحاديثِ أضعفُها، فخرجت فتاوى انحرفت عن رسالة الدّينِ تثيرُ الضحكِ والشفقةِ، كإرضاعِ الكبيرِ وأكلِ لحمِ المرأةِ وتكفيرِ أفلام الرسوم المتحركةِ، وبالمجملِ نجحَ هذا النظامُ بمساعدةِ المسلمين أنفسِهم بجعلِ دينِهم مرادفاً للإرهابِ في جميعِ أرجاءِ العالمِ، كقولِهم ليسَ كلُّ المسلمين إرهابيين ولكنَّ كلَّ الإرهابيين مسلمون، وذكّرَهم بتاريخِهم ومقاتلِهم جميعها واستحضرَ خلافاتِ من سبقوا وأحيا الفتنة.
وإبليسُ لا يُباشِرُ أعمالَه بنفسِه، بل عبرَ أعوانِه واصطفى من بينهم من جعلهم أخوتَه، وهم أولئك المتطرّفون الإرهابيّون، وهم إن اختلفت أسماؤهم يتشاركون إيديولوجيّةٍ واحدةٍ مضمونُها أنّهم يتحدّثون باسمِ الله وعلى لسانِه وقد نصّبوا أنفسَهم أوصياءَ على البشرِ، ووسطاءَ وشفعاءَ عندَ اللهِ، فهم وحدُهم يعرفون ما يُغضبُه وما يُعجبُه وهم وحدُهم يملكون مفاتيحَ الجِنّانِ وعلى مزاجِهم يُعلنون زمانَ ومكانَ الجهادِ، مفوّضون إلهيّاً لفرزِ المؤمنين على مبدأ: من ليس معنا فهو كافرٌ، واشتهروا بإصداراتِهم المتتالية وتحديثاتِهم للحلالِ والحرامِ، فالحرامُ يصبحُ حلالاً بتأويلٍ، وقد يُصيّروه حراماً بفتوىً إذ اقتضتِ الحاجة، فهو دينٌ يُلبّي متطلباتِ السياسةِ، ويخدِمُ الهدفَ والضرورةَ، يُطبّقُ على العامّةِ ويُستثنى منه الخاصّةُ بمرونةٍ عجيبةٍ، فجعل الدينَ يتمرّدُ على المسجدِ وصارَ يجولُ في ميادينِ الحربِ كالغربانِ تحومُ على الجيفِ، وكان مشايخُ الوهابيّة نموذجاً لشحنِ الكراهيّةِ، تراهم على المنابرِ ينعقون وقد عُميت أبصارُهم، وتفرّغوا لحسابِ البشرِ دون الله، وما أغربَ ما تفتقت عنه فتاويهم قتلٌ، ذبحٌ، إحراقٌ، إغراقٌ، صلمٌ، جدعٌ، سملٌ، تنكيلٌ بالجثثِ وتقطيعٌ لها واغتصابٌ للنساءٍ، كلّ ذلك باسمِ اللهِ ومن أجله. متعطّشون للاستحكامِ برقابِ العبادِ، يتسابقون بالتطرّفِ كما في سباقاتِ الهجنِ، خرجوا من عمقِ صّحراءِ الجهلِ، حاملين سيوفَ داحسَ والغبراء والبسوسِ، يُعادون كلُّ مظاهر المدنيّة والسّلم، وفي دينِهم إلقاءُ التحيةِ كفرٌ، والتسامحُ خيانةٌ والمولد النبويّ بدعة.
الربيعُ العربيّ عروسٌ واحدةٌ والنُّقب متعددةٌ
أما علاقةُ إبليسَ الأكبرِ بإخوتِه فقد بُنيت على المدِّ والجزرِ ظاهراً، فتارّةً حربٌ ضروسٌ وطوراً توافقٌ كما اليومَ، فحتّى الأمسِ كان الأخوةُ يُواصلون الدعاءَ على كلِّ منابرِهم بالموتِ لإبليسَ الأكبرِ رمزِ الانحلالِ الاجتماعيّ والابتذالِ الأخلاقيّ، وشتموا حضارتَهُ الزائفةِ ونساءَه العارياتِ واتّهموهن بالعُهرِ، ورجالَه الكفّار شاربي الخمرة وأكلةِ لحمِ الخنزيرِ، والحقُّ أنَّ إبليسُ يفيدُ من حربِهم وسِلمِهم.
إبليسُ المتعطّشُ لمصادرِ الطاقةِ، نقّب طويلاً في أعماقِ الصحراءِ، وبالصدفةِ اكتشفَ على سطحِها مصدراً جديداً للطاقةِ لا يقلُّ أهميّةً عمّا تحتَها، فكان الغازُ الطّبيعيّ المُقدّسُ النّاتجُ عن تفسّخِ العقولِ منذ قرونٍ طويلةٍ، وقد لفَّها غُبَارُ الجَهلِ والتّخلّفِ، حتى جمجمةُ فرعونَ حفظَها التّحنيطُ، فرِح إبليس بالاكتشافِ ووجدَ فيه ضالته، فهو لا يُحاربُ التخلّفَ، ولا يهدرُه، فكان مشروع استثمارِ الغازَ المقدّس، ومن عجائبِ الغازِ أنّه يمدّ المستثمرَ بالحياةِ ويدوّرُ عنفاتِ المولداتِ والمصانعِ في الغربِ ولكنه يخنقُ في الشرقِ.
إبليس وحيدٌ لم تُعرف له عائلة أو إخوة، ولكنّه جعل من ربائبه إخوة، وهم صدقوا الكذبة، وجعلوها نسباً وشرفاً، وبهذا صار إخوته المفترضون صغارَ الأبالسةِ، والعلاقة بينهم عجيبة غريبة، وبخاصة الأخ الصغير الذي تلقفه في صحارى أفغانستان عائداً من الحجاز وقد أتمّ فروض الحج والعمرة، ولبس العمامة وجلباباً قصيراً، وبلحية متهدلةٍ، يعيشُ أملَ أن تخفقَ أعلامُه السوداءَ على واجهة البيت الأبيض، الكرملين والبيتِ العتيقِ، وفي سبيل ذلك سيواصلُ الجهاد وسيجعل الناس المخالفين قرابين لفكره.
فجأةً خطرت لإبليسَ فكرةٌ، فتلبّسَ باللونِ الأبيضِ، وجاء بسيارةٍ فارهةٍ ووقفَ أمام بيتِ الجيرانِ قال: إنّه جاءَ خاطباً، كان مستعجلاً، ولا مجالَ لوقتٍ يضيعُ، فطلبَ عقدَ قِرانه مباشرةً، وأهدى العروسَ عطراً اسمه “Freedom” ملأ الخياشيمَ وأزكمها، والجيرانُ الفقراءُ لم تسعُهم الفرحةُ، فانفجرتِ الحناجرُ بالتهليلِ والزغاريدِ، وتناسوا فقيدَ الحريقِ البو عزيزي، ضجَّ الجيرانُ في الخليج بزغاريدِ الرجالِ قبل النساءِ المنقّباتِ، وباركَ خادمُ الحرمين العقدَ الميمونَ وتكفّلَ بنفقاتِ العرسِ كاملةً، السنيور الفرنسيّ واللورد البريطانيّ باركا زيجاتِه طمعاً بحلوى الأعراسِ.
مضت أيامٌ قليلةٌ وعاد إبليسُ خاطباً في بيتٍ آخر بالحيّ، وتوالت خِطباتُه وفي كلِّ مرّةٍ يغيّر زيَّه وسيارتَه، ولكنَّ الموضوعَ هو ذاتُه، غنيٌ يطلبُ القُربَ والنَّسبَ، رغم أنّ العريسَ نفسَه مشكوكٌ بنسِبه، ولكن آخر عرسٍ انقلبَ فجأةً إلى مأتمٍ، بسببٍ رصاصةٍ طائشةٍ أودت بحياةِ أحد الحاضرين، الذين صُدِموا بالحادث الذي أفسد فرحتهم.
نهضَ إبليس على قدميه، أرعدَ، أزبدَ، توعّد، صرخ بالحاضرين: إنَّ إبليسَ هو مُطلِقُ النارَ مشيراً عبرَ ماءِ الخليجِ شرقاً إلى أصحابِ العمائم، وأن لا بديلَ عن أخذِ ثأر الفقيدِ حرباً، ونادى على كلِّ الطائفةِ عرباً وتركاً ومن كان بالمغتربِ أن هلمّوا للأخذِ بالثأرِ، فكان الاجتماعُ على البيدرِ السُّوريّ مُلتقى الطُّرقِ، وأوعزَ العريسُ للخياطين بتفصيلِ الكلابيات وقبّل لحى المجاهدين ممن لبّى النداءَ، واعتذر عن كلِّ سوءِ تفاهمٍ وطلقةٍ “طائشةٍ” يومَ العرسِ الأفغانيَ، ووعدَ بحفظِ عُهدَةِ بن لادن “المجاهد”، وقد يُطلقُ اسمُه على مبنىً في مانهاتن أو البيتِ الأبيضِ لا فرقَ أبداً.
إبليسُ مُعدَّدِ الزّيجاتِ، صار صهراً عابراً للدولِ، وكلُّ عرائسِه كُنَّ مُنقّباتٍ، أخذهن بجولةٍ بحريّةٍ على سطحِ حاملةِ الطائرات بدلَ اليخت، فتنقلن ما بين المحيطِ والخليجِ، وتعجبن من التغيير، وسُرعان ما اعتدن الحياةَ الجديدةَ، وحملن وفرّخن، وحلِمن بالمجدِ وتحقيق الأماني وأجمعن على تغييرِ النشيدِ، فلم تعد بلادُ العُربِ أوطانيّ، ورافعُ الرايةِ شيشانيّ، وأما الخليفةُ العثمانيّ، فقد اغتم لانكسار رعاياه بكوباني فاقسم على الانتقام لقتلاه، فبعث في المدائن ليحشر كلّ لص محترفٍ وقاتل مهووس وزجّهم لاحتلالِ عفرين.
التقسيمُ للأصيلِ والإرهابُ للوكيلِ
العرّافةُ الشهيرةُ “رايس” استبقت الزمن وملأتِ الدنيا بالدعايةِ وبشّرت بوليدٍ مرتقبٍ، هو الشرقُ الأوسطُ الجديدُ، وأنَّ على كلِّ الأصدقاءِ والموالين تحضير هدايا التّبريكِ والتهنئةِ، ولكن عسرَ الولادةِ كان العقبة، كما أنّها أخطأت بقولها إنَّ الحملَ توائمٌ متعدّدةٌ، لأنَّ العرائس كن عديدات، والمواليد اتفقوا في الصّلبِ واختلفوا في الأرحام.
ولأنَّ دوامَ الحالِ من المُحالِ، فالأخوةُ يتطلّعون ألا يتخلّى الأخ الكبيرُ عن وصايتِه لهم، بعدما باتَ مصيرُهم على شفيرِ الهاويةِ، رغم ثبوتِ عدم صحّةِ علاقةِ الأخوةِ وبُعدِ الأصلِ والنسبِ، وهم يذكرون أنَّ حُسين أوباما عندما جاءهم أول عهدِهِ حاجّاً وخطبَ فيهم، يومَها صفّقوا له كثيراً وأُعجبوا واستبشروا بربيعٍ مزدهرٍ، وبقاءِ مزارعهم وافرة الظلالِ، فأجزلوا له العطايا وتعهدوا له ببقاءِ الرقاب ممدودةً، وتنافسوا في مدحِه ونعتِه بالألقابِ حتى لكأنّك تتصوّره بجلبابٍ ولحيةٍ طويلةٍ، ولم يطُلِ الزّمنِ كثيراً حتى ظهرَ النّاصرُ أوباما نفسُه بقلنسوةِ الحاخامِ، لكن لا شيءَ تغيّرَ، ومع شعار أمريكا أولاً تختلف الحسابات الرقميّة كثيراً والدفع أصبح سلفاً قبل الخدمة.
معادلةٌ صعبةٌ فيها أكثرُ من مجهولٍ، وباتت أحجية، وحلُّها يلزمُه الإصغاءُ لكلِّ الأصواتِ وخاصّةً الناس الذين يئنون ألماً، وقد وزعوا دُموعَهم على فقدِ الأهلِ والأبناء وعلى الحدودِ ومخيماتِ النزوحِ واللجوءِ. ولا أحدَ يستطيعُ التنبؤَ بالثمنِ الذي سيدفُعُ حتى اليوم، لإنهاءِ العلاقةِ أو استمرارِها، فالطلاقُ في أفغانستان كانت كلفَتُه انهيارَ برجي التّجارةِ العالميّ ودُفن 3000 مواطن أمريكيّ تحتَ الأنقاضِ، تُرى كيف سيؤولُ مصيرُ العالمِ العربيّ الجديد وقد خلعَ عنه زي الكاوبوي السّياسيّ المستوردِ، وتزيّن باللحيةِ السلفيّةِ ولبِسَ الكلابية أو اعتمر الطربوشَ العثمانيّ؟ هل سيغدو العالمُ أكثر أماناً، وينامُ مِلءَ جفنيه فلا تُوقِظُه الكوابيس؟ هل يمكنُ لأوروبا أن تنعمَ بالاستقرارِ وتأمنَ شوارعُها وقد هدّدها أردوغانُ علناً، بعدما توسّلها مراراً لقبول عضويّة كاملة بالاتحاد الأوروبيّ أو الشراكة كجائزة ترضية، وبعدما أضحت الأراضي التركيّة ممراً لكلّ الموتورين والمتطرفين ومضخّةً سحبٍ ونزحٍ للمرتزقةِ المأجورين، تحقيقاً لحلمِ السلطنة الجديد الذي يتخذ من الحالة الإخوانيّة جسر العبور ومدّ نفوذه بالمنطقة ووصل إلى قطر والبحر الأحمر، ويتأرجح بين موسكو وواشنطن.
قبل نحو قرنٍ من الزمانِ كان الشرقُ الأوسطُ متواصلَ الامتدادِ وقد تمَّ توزيعه مزارعَ وواحاتٍ على القبائلِ، وثمّة عائلة انقسم أفرادها على أكثر من عِزبةٍ دون أن يكون لها بستانٌ خاصٌ. وما يحدثُ اليومَ هو تغييرٌ شكليّ لشيخ القبيلة، والصراع كله على مقام الشيخ، ولكنَّ التغيير الأعمقَ كان على مستوى الفكر والعلاقات، فقد تمّ تحريضُ التاريخ بكلِّ خلافاته وراحتِ القبائلُ تنتقمُ من بعضها البعض بحقدِ القرون الماضية فعادت ظاهرة الغزو والغنيمة والسبي، أما تلك العائلة التي توزعت على حدودِ العزبات فقد كبُر عددها وراح أحد أفرادها يبني سوراً حول بيته، وفجأة طوت القبائل خلافاتها واجتمع الرأي على هدِّ السورِّ. ولكن عدوى الاحتراب والخلاف أصاب تلك العائلة أيضاً، إلا أنّ الحُلمَ يجمعهم بالعودة لسابقِ عهدهم وتروي الجدة قصة العائلة وأنّ مائدة واحدة كانت تجمعها.
بالمحصلة لا حلّ لأزماتِ المنطقة ناهيك عن الأزمة السوريّة، إلا الحوار والتعدديّة السياسيّة وإرساء قواعد الديمقراطيّة، لأنّ أيّة صيغة مذهبيّة دينيّة أو قوميّة عنصريّة، وستقومُ على إنكارِ شركاء تاريخيين، والدولة القوميّة هي دولة القبيلة التي تناقضُ واقع المنطقة من حيث تعدد الشعوب، وهي محرّض استمرار التناقض وإذكاء الحروب، والديمقراطيّة هي الخير وزهر الربيع الذي يخشاه إبليس فسرقه.
No Result
View All Result