بدأ رقص السّماح من حلقات الأذكار الدّينية بضرب الأيادي ببعضها من قِبل المتصوّفين ومريديهم من التّلاميذ، فضمّ جميع التّواشيح، وما كان يُدرّس في تلك الأيام من أناشيد. على يد الشّيخ عقيل المنبجيّ، 450-555هـ. وهو عالم صوفيّ بارع في الموسيقى؛ درس الغناء والإيقاعات في مدينة منبج، وقد ألهمه ذكاؤه إلى تحويل نغمات الموشّحات، والأناشيد التّي كانوا يغّنونها بأصواتهم، ويضربونها إيقاعاً بأيديهم إلى حركات متلاحقة؛ يتمّ تأديتها بالأرجل؛ ثمّ علّم طلّابه هذه الحركات؛ وفقاً لإيقاع الموشّحات، ولاقى هذا النّوع شهرة، وانتشاراً واسعين.
الرّقص الصّوفّي
تتّسع دائرة الرّقص، وما يصاحبها من حركات متنوعة، بما فيها الرقص في المناسبات الدّينيّة الرّسميّة. ويتّخذ الرّقص طقوساً ومراسيم؛ باختلاف الشّعوب، وعاداتها، وتراثها. فعند البدائيين؛ كانت الطّقوس عبارة عن أنماط؛ يعبد فيها إلهاً واحداً، ومنهم من كان يعبد عدّة آلهة، أو ربما أسلافه، ومنهم من يدين بالطوطم.
وكان الرّقص؛ يتسم بسمة سحريّة، وذلك ظناً منهم أنه يجلب المطر، أو لطلب النّصر، حيث يقوم الرّاقص بالالتفاف حول رمز مقدّس، كما في رقصة السّماح، والموالي. أو قد تكون الرّقصة حول شخص من أجل الاقتباس؛ من قوّته السّحريّة، أو ربّما من أجل بثّ القوّة فيه أيضاً.
ومارس العرب الرّقص قبل الإسلام؛ بذات الطّقوس؛ بحركات دورانيّة من خلال الطّواف حول الكعبة مصحوباً ببعض الرّقص، والغناء. وقد أشار القرآن الكريم لذلك بقوله تعالى:” وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء، وتصدية؛ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون” وحين جاء الإسلام منع، وحرّم تلك الأفعال؛ لأنّها من قبيل التّصفير، والغناء. إنّ الحركات الرّاقصة التّي تقام في مجالس المتصوّفة؛ أصبحت سمة بارزة؛ لحالة الوجد مع الذات الإلهيّة، وبين الصّراع مع المادّة؛ لأجل هذه الحركات؛ كان يتقرّب منها إلى الله. وما هي إلّا محاكاة بين أرواح السّالكين، وبين الذّات الإلهيّة؛ حيث يعبّر بهذا الرّقص عن حال وشعور المتصوّف إلى ربّه.
نبذة عن حياة الشّيخ عقيل المنبجيّ
هو الشّيخ عقيل بن أحمد بن زيد بن عمر بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد نسب الشيخ إلى منبج؛ لإقامته، ووفاته فيها. وقد ولد الشّيخ وفق أغلب المصادر في البطائح. وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة في العراق، وترعرع فيها مدّة من الزّمن. إلى أن شبّ، وقوي عوده. فتلقّى في صباه علوم الدّين على يد الشّيخ أحمد الرّفاعي، والشّيخ مسلمة عبد الرّحمن السّروجيّ، إضافة إلى الشّيخ حياة بن قيس الحرّاني. وكان الشّيخ العقيلي؛ يفتخر بشيوخه، ويقول:” أنا أغترف من أواني أشياخي الثّلاثة”.
أمّا تلاميذه، فقد نهلوا الكّثير على يده، وتأثّروا به، وأخذوا عنه، نذكر منهم؛ عديّ بن مسافر الشّامي، والشّيخ يوسف بن علي المنبجيّ، والشّيخ سعيد بن سلامة القرشيّ. وقد ذكر الشّيخ الشّعراني؛ فضل الشّيخ العقيلي بالقول: “هو شيخ شيوخ الشّام في وقته؛ تخرّج بصحبة جمع من الأكابر. انتقل إلى منبج في مرحلة شبابه؛ ليؤسّس زاوية فيها؛ إذ تجمّع فيها الطّلاب والمريدين من كلّ منطقة؛ لنيل العلوم المختلفة”.
وشاع عنه بعض الآثار التّي ذهبت مثلاً وقولاً مأثوراً؛ كما أورده حسين علي بكار: “طريقتنا الجد والكّد، ولزوم الحد حتّى تنفذ، فأمّا أن يبلغ الفتى مناه، وأمّا أن يموت الفتى بدائه”. وقوله أيضاً:” فقدان الأسف والبكاء في مقام السّلوك؛ علم من أعلام الخذلان”.
أما بالنسبة لوفاته، فقد توفي في منبج بعد أن استوطنها؛ نيفاً وأربعين سنة. فكانت وفاته بعد سنة 731 هـ ودفن في منبج، وبجانبه إلى الجنوب؛ قبر زوجته، وفي الجهة الشّرقية؛ ثلاثة قبور؛ يتوسّطها قبر ابنه الشّيخ جمعة.
كيفيّة ظهور رقص السّماح
إنّ غالب الأمر عند المتّتبعين، والمهتمّين بهذا الشّأن للحركة الفنيّة؛ يروون أنّ رقص السّماح أحدث؛ ثورة كبيرة في عالم الرّقص الإيقاعيّ؛ خاصّة بعد انتقاله من منبج، إلى دمشق في عام 1947م.
وسنورد بعض الآراء حول نشوء هذا الرّقص، وكيف تطوّر إلى وضعه الحالي. فأدهم الجندي، يرى:” إنّ رقص السّماح عربيّ قديم، ويرجع إلى عصر الجاهلية، وأنّه فارسيّ الأصل. وفيما بعد حمله الإسلاميون إلى كافّة المناطق التّي كانت ترزح تحت سيطرتهم، ثمّ تمّ نقله إلى الأندلس”. بينما يشير مجدي العقيليّ؛ أنّ لا صلة بهذا الرّقص بالأندلس، وإنّما هو سوريّ محدث. نشأ في منبج مع فاصل” أسقِ العطاش” ثمّ حضنته البيئات السّورية؛ لحشمته، وجماله. في حين يذهب آخرون إلى أنّ أصل السّماح وثنيّ قديم؛ حضنه الآشوريون والسّوريون؛ باعتبارها كانت مركز الدّيانة الآشورية في ظل حكم الرّومان، والمسيحيّة”.
أمّا عدنان مينيني، وهو أحد تلامذة عمر البطش؛ حيث يروي عنه قائلاً: “إنّ الشّيخ عقيل المنبجي؛ هو أوّل من رتّب السّماح، وكان من المتصوّفين، وكان يقيم في داره؛ زاوية ذكر دينيّة؛ ضمن حلقات جماعيّة.
كما يشير عمر العقاّد؛ وهو مشرف، وخبير رقص السّماح في وزارة الثّقافة السّوريّة؛ إنّ العالم الجليل؛ عقيل المنبجي؛ هو أوّل من طوّر السّماح على يديه، وهو مبتكر هذا الرّقص.
تسميّة السّماح
عرّف بطرس البستانيّ؛ رقص السّماح في معجم المحيط المحيط؛ بأنّه رقص للمشايخ؛ يستعملونه في العبادات، ويؤدى في تشكيلات، ونغمات، وإيقاعات، وخطوات متعدّدة؛ على شكل وصلات؛ تغنّى فيها الموشّحاتّ والقدود، واعتبره آخرون؛ أنّه طقس متفرّع عن فاصل” أسقِ العطاش”.
في حين ردّها البعض إلى المادّة اللغويّة؛ سمح، من خلال مصدرها. ليدلّ بشكل أو بآخر على الرّقص، والموحيّة بالسّماح؛ في مقابل ما كان يخطر من الرّقص الخلاعيّ؛ المفسد للأخلاق؛ المثير للغرائز.
ورأى آخرون أنّ رقص السّماح؛ تقليد فنيّ؛ يكمن في الاستئذان من صاحب السّجادة، أو الاستئذان من صاحب الدّار؛ للبدء بالرقص؛ وهو رقص جماعيّ؛ يأذن لهم، وعادة يرقصون مع الإنشاد؛ فيتصايحون السّماح، السّماح؛ حتى يشير لهم صاحب السّجادة بالرقص، فيندمجون في رقصاتهم.
ويوضّح العقّاد إنّ سبب التّسميّة؛ يرجع إلى أصل اسم السّماح. إذ كان يجتمع أغلب المتصوّفين، والمشايخ؛ فيعقدون حينها الرّقص على شكل رتيب؛ يستغرق الفصل الواحد؛ عادة ساعتين أو ثلاث ساعات، وذلك ضمن حلقة واحدة على عدد من وصلات الموشّحات. وفي مناسبة زفاف أحد طلاب الشّيخ عقيل المنبجيّ رغب زملاؤه تقديم فصل من رقص السّماح في حفلة الزّفاف تلك، مع العلم أنّ الرّقص مازال محدود النّطاق، والانتشار، ولاسيما ضمن حلقة الذّكر في الزّاوية. فطلبوا من الشّيخ؛ أن يسمح لهم بتقديم هذا الفصل في حفل الزّفاف، ومع تعالي شدّة الأصوات بالإلحاح؛ السّماح. السّماح”.
ويتابع العقاّد قائلاً:” مع سماح الشّيخ عقيل المنبجيّ لهم بتأدية هذه الرّقصة؛ ولد اسم السّماح، ثمّ انتقل هذا النّموذج الذّي أقيم بمناسبة الزّفاف؛ لينتشر ضمن المناسبات المختلفة؛ حتى أضحى يقدّم في جميع المجالس الغنائيّة”.
شكل رقص السّماح
إن المتمعّن في حركات السّماح المتناسقة؛ يجد أنّها تعتمد في الإنشاء؛ اعتماداً كليّاً على الموشّحات. ومن ثمّ القدود، والمقطوعات الشّعبيّة، وترتبط جماعيّة الرّقص فيه بإذن رئيس الفرقة، أو صاحب السّجادة؛ وكان هذا الرّقص؛ يقطر حشمة وأدباً.
ويرى الفنّان الباكستاني فايزان بيرزادا أنّ رقص السّماح، يحمل في طيّاته سماحة الإسلام، واعتداله، بالقول:” إنّ رقص السّماح؛ يشكّل الأبعاد الروحيّة لهذا النّوع من الأداء؛ نمطاً فلسفيّاً واحداً؛ يعبّر عن روعة الخلق، والخالق في نظر الإنسان؛ المتأمّل المندمج مع قوى الطّبيعة. ولطالما جسّدها الإسلام؛ كدين عالميّ؛ يدعو إلى التّسامح بين البشر؛ منذ نشوئه في قلب الجزيرة العربيّة”.
ويؤكد الباحث عبد الفتاح قلعه جيّ؛ إنّ التّغيير الذّي طرأ على لبس الرّاقصين آنذاك؛ بدأت بمحاكاة الأزياء الأندلسيّة؛ من حيث الألوان، والتّصميم. إضافة إلى تغيير الحركات، وتبديلها الإيقاعي الذّي من شأنه صياغة مشهد بصريّ متميّز في فضاء المكان، والمسرح”.
أمّا أبرز أشكاله؛ فهي الصّف الواحد بقسميه السّاكن والمتحرّك، والصّفّان، والأربعة صفوف. يتكوّن الصّفّ الواحد؛ من تشكيلين للتقابل، والتّعاكس؛ إذ يكون الرّاقصون؛ حلقة واحدة؛ يمكن أن يضاف إليها دائرة أخرى داخليّة أصغر، ثمّ يعودون تدريجيّاً إلى مواقعهم على محيط الدّائرة.
وهناك الدّائرتان المتجاورتان؛ المستقلّتان اللتان؛ يشكلّهما التئام صفّين، أو أربعة صفوف متقابلة؛ إلى جانب تشكيلات أخرى متعدّدة، ومبتكرة؛ كالبحرات، والفسقيّات وغيرها؛ لا تنجز على إيقاعات سريعة مثل: الجورجينا، والفالس، والأكرك، والوحدة.
الباحث عبد الفتاح القلعه جي يرى إن للسماح مدوّنات شبيهة بالنوتة الموسيقيّة، للموسيقار عمر البطش بقوله: “في مخطوطة (نظم العقود) لـ عبد الوهاب السّيفيّ؛ يسجّل في باب ميزان-الأصول موازين-خمسين رقصة سماح مع ضروبها، وتواشيحها، أخذها عن سادة هذا الفن في عهده.
فيما حاول البعض إيجاد طريقة لتدوين رقص السّماح بطريقة النّوتة؛ لا تستطيع ضبط حركات الرّقص، وخطواته، وأوضاعه، والطّريقة المثلى للتدوين. هي الطّريقة الكتابية؛ أيّ تدوين خطوات الرّقصة، وحركاتها، وتحديد أزمنة كلّ منها، وتحديد أماكن الرّاقصين، وبخاصة أنّ رقص السّماح؛ حافل بالالتفاتات، والنّقلات، والدّقرات، وحركات الأيدي، والأرجل”.
المراجع:
ـ كتاب منبج سيرة ومسيرة، حسين علي بكار
كتاب الكواكب الدرية في تراجم السّادة الصّوفية، محمد عبد الرؤوف