سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رسالة إلى تركيا… الاحتماء بالميليشيات لا يكفي لصناعة قوة إقليمية

محمد أبو الفضل –

تسابق تركيا الزمن لدعم الميليشيات المسلحة في ليبيا كي تحصل على نفوذ واسع في منطقة شمال أفريقيا، وتأمل أن يساعدها ذلك في زيادة حظوظها في الجنوب الأوروبي وشرق البحر المتوسط. وتبدي استعدادا للقيام بأي تحركات ملتبسة وغير مشروعة، في سبيل حبك نموذجها القاتم كي تبني زعامة مشوّهة. بذلت جهوداً كبيرة لتتمكن من بسط سيطرتها على حكومة الوفاق في طرابلس، وتخوض الآن حرباً معلنة وبوجوه متعددة لتربح المعارك الجارية على مشارف العاصمة، تعلم أنقرة أن حسابات التسوية السياسية في ليبيا ليست هينة وتتشابك الأطراف الداخلية مع الخارجية في كثير من التفاصيل، وتعي أن طبيعة الأزمة التي تتقاطع مع مواقف دول مختلفة يحتاج عبورها إلى إمكانيات لا يكفي معها الالتحاف برداء كتائب مسلحة وعناصر إرهابية.
تتجاهل القيادة التركية مسألة المخاوف الغربية عن عمد، وتعتقد أن انتصار المرتزقة والإرهابيين في ليبيا وغيرها يكفل لها مساحة من النفوذ الطاغي الذي تريده، ويوفر لها التحكم في مفاتيح الأزمات الإقليمية التي دخلتها من بوابة دعم العصابات المسلحة والتنظيمات المتشددة، وهو ما أصبح واضحاً للقريب والبعيد.
تختلف العواصم العربية المتقلبة بين إيران وتركيا، لكن يظل الغرض سقوط المنطقة في وحل صراعات تقودها ميليشيات مسلحة تأتمر بأوامر قوى إقليمية طامحة وطامعة في القبض على مقدراتها، ما جعل البعض يشكّ في وجود لعبة لتوزيع الأدوار بين دول الجوار غير العربية، فالمهم تلوح في الأفق قوة محورية تلفت الانتباه وتثير الشقاق وتخل بالتوازنات، وتضغط على مفاصل مهمة في الأمن القومي العربي.
مهما كانت يقظة بعض الدول العربية مع هذه المعطيات، يبقى تحركها بطيئاً أو منعدما أو حذراً أو مكبلاً، وربما محكوماً بتقديرات صارمة تفتّ في عضد كل خطوة نحو للأمام، الأمر الذي يمهّد الطريق للقوى الراغبة في الصعود على الأكتاف العربية، والتي تتسلح بالضعف العام والارتكان إلى جماعات من الداخل تتلاقى معها في الأهداف.
مضت نحو ستة عقود متتالية كانت فيها إسرائيل محط أنظار دول عربية كثيرة، انطوت على انقسامات شهيرة وتم تناقل وتبادل مفردات تدغدغ المشاعر، تتراوح بين محاور المقاومة والممانعة والاعتدال والسلام، ومضى حوالي حقبتين بدت فيهما إيران نقطة العتمة التي تثير نقمة دول عربية عديدة، وتتراوح مواقفها بين العداء والتحالف والصداقة والحياد.
قبل أن تبرد السخونة التي صاحبت تكريس إسرائيل كرقم في المنطقة، ظهرت ملامح مشروع تركي للهيمنة، ولأن الطريقة التي تُطوى بها صفحات الدور الذي تقوم به كل دولة تمضي بوتيرة متسارعة تتوافق مع حركة الزمن ومقتضياته المتلاحقة، مرجّح أن يتم تجهيز دولة رابعة كمنغص قادم في المنطقة وقبل أن تستنفد أنقرة أوراق اعتمادها سياسياً وعسكرياً. تتغير هذه العقدة مع تمكن الدول العربية من القبض على زمام أمور مهمة في المنطقة، لأن استمرار الصيغة الراهنة يوقعها دوماً في فخاخ إقليمية، تستهلك طاقاتها وقدراتها، وتفقدها مناعتها الحقيقية في الحفاظ على الأمن القومي ودرء الخطر وصد العدوان.
تركيا تدخلت في العالم العربي مع بزوغ ثورات وانتفاضات عربية، كانت فيها القوى الإسلامية رقماً مركزياً، وحصدت مكاسب وتكبدت خسائر، وبقي المشروع التركي حاضراً لدى المؤيدين والداعمين له، ارتفعت راياته في دول وانخفضت في أخرى/ في كل الأحوال باتت الكتائب المسلحة والقوى المذهبية أهم أدواته، وهدم الجيوش أو استنزافها في مقدمة غاياته، هي سمة لم تتخل عنها أنقرة في حروبها العسكرية الدائرة في كل من سوريا وليبيا، والسياسية مع مصر. طرقت تركيا أبواب تونس والسودان والجزائر بحيلة حصان طروادة الشهيرة، من خلال التعاون مع الأحزاب والقوى الإسلامية التي تحظى بمشروعية سياسية هناك، غير أنها دخلت وتمددت في الأراضي السورية والليبية والصومالية على رافعات عسكرية محظورة رسمياً، تختلف في الأسماء والألقاب وتتشابه في التصورات والتصرفات.
من مزايا الأمم العاقلة أنها تستفيد من دروس الآخرين وتجاربهم، ولا تكرر الأخطاء وتتجنب السيناريوهات التي تقود إلى الهلاك، فقد مضى عهد الاستعمار التقليدي، وتحاول هذه أن تبدع في التوجهات والممارسات إذا أرادت البقاء والحياة لفترة طويلة، وكل الدول التي اعتمدت على ميليشيات مسلحة أو مرتزقة مهما حققت من انتصارات فهي مؤقتة، ومربوطة بلحظات ضعف تنتاب شعباً معيناً، وعندما يسترد أنفاسه ينقلب على أعدائه.
إذا سلّمنا أن ثمة جزءاً معتبراً من التوازنات تملكه قوى كبرى راغبة في تمدّد تركيا في المنطقة أو صامتة عنه، وتجني من وراء طريقتها مكاسب مباشرة أو غير مباشرة، فالتجربة أثبتت أن كل تصورات يتم بناؤها على معتقدات مذهبية وتستمد قوتها من جماعات عنف من السهل تغييرها، ومهما علت مكانتها سوف يأتي الوقت لتصفية الحسابات، لأن الدول التي تصدّر مرتزقة وتعوّل عليهم لن تصمد في مواجهة المخزون الكبير من الصحيان الوطني.
لذلك لا يصنع الركون إلى الكتائب المسلحة قوة إقليمية مؤثرة على المدى البعيد، وهي تتغافل الكثير من المقومات الرئيسية، بدءاً من عوامل الجغرافيا السياسية وحتى قدرات القوى المناهضة، ففي لحظة معينة قد تجد تركيا نفسها مضطرة للدخول في مواجهات صريحة مع جيوش قوية، فكل المعارك التي خاضتها تركيا أردوغان عبارة عن مناوشات محدودة وبعيدة عن أراضيها أو بالوكالة ومن خلال مرتزقة وميليشيات، ولم تختبر في حرب نظامية.