سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رحلتي إلى عفرين -2-

حنان عثمان –
عدت إلى السيدة وقلت لها لن يسمح لأحد بالدخول لأن عدد الشهداء كبير والقصف شديد، فتوسلت إلي أن أذهب وأضع الحنة على أنامل فقيدها لأنه عريس، وعليه أن يحنَّى قبل أن يوارى الثرى. ووضعت في يدي القليل من معجونة الحنة وقالت لي: اذهبي أنت سوف يسمحوا لك بالدخول لأنك ضيفة. نظرت إلى المعجونة التي في يدي ونظرت إليها وبدأت الدموع تنهمر من عيوني بغزارة. بدأت السيدة تصف لي جمال فقيدها من أجل أن أتعرف عليه بين الشهداء، أحكمت قبضتي على تلك الأمانة التي لا تقدر بمال ولا بثمن وحاولت المرور مرة أخرى بين الحشد المتألم، حيث صيحاتهم وبكائهم. وصلت عند الحارسة مرة أخرى وطلبت بتردد وخوف الأذن بالدخول. فأدخلتني!.
لم أستطع البقاء طويلاً، شعرت بدوار في رأسي حاولت أن أتمالك نفسي وأن لا أتهاوى، وشعرت بالغثيان، نظرت إلى معجونة الحناء وأنا لا أدري ماذا أفعل بها. لففتها جيداً ووضعتها في جيب معطفي، وحاولت الخروج مثل الغاطس في قاع بحرٍ، يسرع للخروج إلى سطح الماء لأخذ جرعة من الأوكسجين.
كانت بانتظاري. وضعت كلتا يديها على وجهي وبدأت تقبلني والدموع تنهمر على وجهها البائس، وقالت لي بصوت مبحوح: «هل وضعت الحنة على إصبع ولدي؟ هل تعرفت على ولدي الجميل؟»، بدأت أهز رأسي مجيبة بنعم، وأنا أحاول أن أُهدئ من حزنها. بينما ذرفت عيناي الدموع تحت وطأة الكلمات التي كانت تخرج من القلب، فجأة شعرت بيد تمسك ساعدي وتشدني لخارج الحشد، كانت يد صديقتي الفلسطينية سعاد التي كانت تبكي بحزن شديد، قالت لي: لنذهب من هذا المكان لقد تذكرت وكنت شاهدت مثل هذا المشهد المأساوي لشعبي الفلسطيني، وكأن التاريخ يعيد نفسه!. بعد قليل بدأت مسيرة التشييع وسط الأهازيج الوطنية تارة، وصرخات الأمهات المحترقة والتي تطالب المشيعين أن يعيدوا أولادهن إلى أحضانهن، حتى تتمكنَّ من ضمهم إلى صدورهن تماماً كما حين كانوا أطفالاً.
رأيت الأمهات الشامخات القويات اللواتي قدمن أكثر من ولدٍ في سبيل الدفاع عن مدينة عفرين، بدأن يتحدثن بلسان أبنائهن، شهدائنا، تغزِلن بعباراتٍ قوية نسيج الوطن، تُشعرنا بالتضاؤل أمام تضحياتهم، بالضعف أمام قوتهن، بالجهل أمام وعيهن الفطري، كان حديث بعض أمهات الشهداء، أعظم ردٍ على السؤال الذي يحير العالم من أين للكردية والكردي هذه العزيمة والشجاعة القتالية؟!، لتأتي الإجابة من هذه الأرض الطيبة، التي نبتت في أحشائها أجنة الأبطال واللبوات، من هذه الأسر الوطنية، آباء وأمهات غرسوا في أطفالهم بذور المقاومة وحب الوطن.
بعد أن وصلنا إلى المقبرة كانت نظراتي تلاحق الأم «صاحبة الحنة» التي كانت في الصفوف الأمامية لموكب التشييع، لتحاول إلقاء جسدها داخل القبر الذي أعد خصيصاً لنجلها الذي كانت تعاتبه بكلمات بريئة، وتقول: yawrum min tene nehele . أي «يا حبيبي لا تدعني وحيدة».