نحن مجتمعٌ يدمنُ التفجّعَ والمرثياتِ والنواحَ، ونلقي بالمسؤوليةِ على الآخر، فكلُّ مصائبنا سببُها الآخر، ونستخدم مصطلحاتٍ فضفاضةً هلاميّةً للإشارةِ إليه كالمؤامرةِ أو العدو الخارجيّ أو المجتمع أو الحكومة أو الدولة، والفساد والروتين والبيروقراطيّة والدوغمائيات والعادات والتقاليد والتخلف، فيما نحن أبرياء أنقياء أتقياء…
لندع كلَّ تلك المصطلحاتِ ولنواجهِ الحقيقةَ العاريةَ، فالمجتمعُ هو نحن، والمؤامرة الخارجيّة هي ضعفُ مناعتنا الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، والفساد هو العاملون في وظائفِ الحكومة والمؤسساتِ الخاصة. وحديث النظامِ والمعارضةِ هو الفرقُ ما بين ممسكٍ بالسلطةِ وطامعٍ بها… وكلهم سوريون، ليسوا من موزامبيق ولا نيكاراغوا، ومعظم الضحايا ومطلقي الرصاص سوريون!
يتحدثون عن الناسِ في العراءِ والمخيماتِ ويتهمون الآخرين أيّ آخرين (ربما دون تحديد) بالتقصير والإهمال، ولا يفعلون شيئاً لوقفِ المأساةِ لا وقف الحربِ ولا دعم الضحايا، فهي الهرطقة الوجدانيّة؟
الاحتفاءُ المتواضعُ بهذه الليلةِ كلفته بالحدِّ الأدنى 150 ألف ليرة، في الظروف الحالية، وقد يصل بضع مئات الآلاف، وعدد المحتفلين عدة ملايين من السوريين، ولنتخيل حجمَ الإنفاقِ لإطفاءِ شمعةِ رأسِ السنةِ! من المؤكدِ أنه يُقدّرُ بمئاتِ ملايين الدولاراتِ أي عشرات مليارات الليرة السوريّة التي دخلت غرفةَ الإنعاشِ في حالةِ احتضارٍ… فيما الناسُ في العراءِ والمخيماتِ هم مئاتُ الآلافِ، ولعلَّ كثيرين سيتكلفون مبالغَ كبيرةً لاحتساءِ المشروبات أو حضورِ حفلةٍ في فندقٍ ولن ندخلَ في تفاصيل طقوس الاحتفال واللباس… إلخ.
ومن الهرطقة الوجدانيّة، التبرير بالقولِ إنّ العالمَ كله يحتفلُ، وينسون أننا نختلف عن العالم، ويتجاهلون أنّ الحربِ ما زالت مستعرةً، وكذلك الملايين في مهاجر أوروبا ومئات الآلاف مهجرين قسراً من مناطق تحتلها أنقرة ومرتزقتها، وصفقاتِ تسويةٍ بين الدولِ على حسابِ البلد، فالعالمُ الذي يحتفلُ لا يشبهنا ولا حربَ على الهوية عندهم، وهم مترفون وانتهوا من حلِّ مشكلات الحياةِ اليوميّة، والمهاجرون السوريون في أوروبا يعلمون ذلك جيّداً، فهم ينالون من الاهتمامِ والمساعداتِ ما لا ينالوه ببلدهم حتى لو عملوا ليلَ نهار…
اليومَ قد يُطلق في مدننا من الرصاصِ والألعابِ الناريّة ما يكفي ثمنه لتأمينِ حاجاتِ عشرات آلاف الناسِ المحتاجة والأيتام… ثم سندخلُ حالةَ الخدرِ الفكريّ، ونتكلُ على المنجّمين لمعرفةِ نهايةِ الأزمةِ والوضع المعيشيّ والماليّ ومسائلِ الصحّةِ والزواجِ والحبِ والدراسةِ وكلّ شيء… ثم سنكتبُ ونتحدثُ عن آلام الحرب والمعاناة، أما الإعلام الرسميّ فسيكونُ كعادته في عالمٍ آخرَ غير عالمنا…
ولكن يبقى رأس السنة مناسبة للأمنية الطيبة، أن يكون القادم أفضل، وأن نعقد العزم على بذل الجهد ومواصلة العمل لمستقبل أفضل…