الكرد ومنذ زمن بعيد، يتعرضون للظلم والاضطهاد على أيدي الغزاة والمحتلين، على الرغم من أنهم أصحاب الأرض الحقيقيون بموجب الآثار والمكتشفات التاريخية الموجودة في المنطقة، لكن يأبى الطغاة والمستعمرون الاعتراف بهذه الحقيقة التاريخية والمدعومة بالأدلة العلمية والإثباتات.
منذ ما يُقارب 200 عام والكرد يناضلون من أجل العيش بحرية وكرامة فوق أرض آبائهم وأجدادهم جنباً إلى جنب مع بقية شعوب المنطقة الأصلاء، لكن؛ الأنظمة الاستبدادية، التي وضعتها قوى الهيمنة العالمية على سدة الحكم في الدول التي تقاسمت كردستان فيما بينها، تقمع هذه الانتفاضات والثورات بقسوة ساعية تلك الدول لإبادة الشعب الكردي من خلال الاستمرار في ارتكاب المجازر الوحشية بحقه.
ومن هذه الأنظمة النظام الإيراني، القائم على اعتبار الكرد (من الشجرة الخبيثة، وقتلهم حلال!) بموجب “الفتوى الشهيرة” التي أطلقها آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، المستمر في حملات الاغتيالات والإعدامات بحق خيرة شبان وشابات الكرد الرافضين للذل والخنوع.
ومقالنا اليوم مخصص عن كيفية قيام هذا النظام باغتيال شخصية وطنية كردية سعت إلى حل القضية عبر الطرق السلمية، وعبر الحوار مع النظام، إنه الدكتور الشهيد “صادق شرف كندي”.
الولادة والنشأة
في السنة التي قامت فيها السلطات الفرنسية بقصف مدين عامودا في روج آفا “عام 1937″، ولد في قرية مرفه، التي تتبع مدينة بوكان في روجهلات كردستان طفل لعائلة كردية وطنية أطلقوا عليه اسم “صادق”، والذي كغيره من الأطفال الكرد، حياته مليئة بالأحداث العاصفة التي ضربت المنطقة، وقد درس المراحل الأولى من دراسته في “بوكان”، ومن ثم أكمل الدراسة في مهاباد، وبعدها حصل على شهادة الليسانس في الكيمياء من جامعة تبريز سنة 1959.
وبعدها ذهب إلى العاصمة طهران، حيث عمل هناك مساعد مدرّس في المعهد العالي للتعليم، كان نشطاً ومثقفاً وطنياً، سعى إلى تسهيل شروط القبول في المعهد لمساعدة الطلبة الكرد في الانتساب إليه والحصول على التعليم العالي، فقامت السلطات التعسفية الإيرانية بنقله إلى مدن بعيدة مثل عامة الكرد، أراك، وغيرها، لكنه لم يتنازل عن مبادئه الوطنية وروحه الغيورة على كل ما هو كردي وإنساني.
تربية وطنية بامتياز
وللعائلة والأهل دور كبير في تربية الفرد، والدكتور شرف كندي كان من عشيرة موكريان ذائعة الصيت، والتي أسست أمارة شهيرة استمرت لعدة قرون، شقيقاه الأكبر منه “هجار موكرياني 1920، وهيمن موكرياني 1924″، كانا متميزين بروحهما الوطنية وثقافتهما العالية، وبعد وفاة والدهم، قام الشاعران الكبيران بدور الأب، فحثاه على الدراسة والعلم، بالإضافة إلى تربيته على الأخلاق والروح الوطنية الثورية، كيف لا وهم المقربون من الزعيم الكردي الكبير، ومؤسس جمهورية كردستان الديمقراطية القاضي محمد، فالدكتور شرف كندي كان كردياً وطنياً ملتزماً بقضية وطنه وشعبه، كما كان ذا نزعة إنسانية في غاية الرقي.
الدخول إلى السياسة من بوابة باريس
نتيجة لكفاءته العالية في التدريس، حصل على منحة دراسية على حساب وزارة العلوم لإكمال دراسته العليا في مجال الكيمياء التحليلية في فرنسا، التي وصل إلى عاصمتها باريس في العام 1972، خلال تواجده في باريس ودراسته الدكتوراه في الجامعة، وفي العام 1973 تحديداً، تعرّف على الدكتور الشهيد “عبد الرحمن قاسملو” الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، حيث أطلعه على برنامج وسياسة الحزب، وخلال فترة قصيرة انتسب شرف كندي للحزب، حيث أصبح عامل تنسيق وارتباط بين الدكتور قاسملو والرفاق القدامى، بعد أن نال شهادة الدكتوراه في الكيمياء التحليلية سنة 1976، عاد إلى العاصمة الإيرانية طهران حيث قام بالتدريس في المعهد نفسه الذي درس فيه، واستمر في نهج سياسته القائمة على دفع الشباب الكرد نحو التعليم والدراسة على الرغم من المضايقات الكثيرة، التي كان يتعرض لها من جانب الأجهزة الأمنية لنظام الشاه.
الكفاح والنضال بحزم
ولم يتوقف لحظة واحدة عن النضال والكفاح من أجل تحقيق أهداف شعبه في العيش بحرية وكرامه فوق تراب وطنه، بعد انتسابه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عن طريق الدكتور الشهيد قاسملو في باريس، وبعد عودته إلى الوطن عُيّن عضواً في اللجنة المركزية للحزب سنة 1978 وخلال المؤتمر الرابع للحزب في العام 1980، تم انتخابه عضواً في المكتب السياسي للحزب، وفي العام 1986 قام الدكتور قاسملو بتعينه معاوناً له.
وبعد استشهاد رفيق دربه وصديقه الدكتور “عبد الرحمن قاسملو” في فيينا بتاريخ التاسع من تموز 1989، تم انتخابه أميناً عاماً للحزب، حيث تابع شرف كندي مسيرة الراحل الكبير في النضال والكفاح بحزم وإصرار من أجل تحقيق مصالح وأهداف الشعب الكردي وبقية شعوب إيران.
وناضل شرف كندي في مختلف المجالات، سعياً لتحقيق انتصار لقضية الشعب الكردي العادلة، والحصول على حكم ذاتي حقيقي في مناطق روجهلات كردستان، ومن أجل ذلك، عمل بكل طاقته ليل نهار لتحقيق ذلك، حتى أنه فتح باب المفاوضات مع النظام الإيراني الذي أبدى حسن نيّة واستعداداً للحوار مع ممثلي الكرد.
الاغتيال الجائر في قلب أوروبا
وبعد باريس عاصمة النور والثقافة الأوروبية، جاء دور العاصمة الألمانية برلين لتكون مسرحاً لجريمة اغتيال بشعة حدثت في وضح النهار، وفي مكان عام بمطعم يوناني يُدّعى (ميكونوس)، وليس كما جرى في باريس في الخفاء وتحت جنح الظلام. فلو تمت محاسبة القتلة الذين اغتالوا د. قاسملو في باريس، لما تجرّأ الطغاة على ارتكاب الجريمة الثانية في برلين.
وكان موعد اللقاء من أجل الحوار مع وفد النظام الرجعي في مطعم (ميكونوس) في العاصمة برلين يوم 17 أيلول 1992، ولدى دخول الدكتور الشهيد شرف كندي مع رفيقيه “فتاح عبدلي” عضو اللجنة المركزية للحزب، و”همايون أردلان” أحد الكوادر المتقدّمة في الحزب، بالإضافة الى مترجم كردي يدعى “نوري ديكوردي”، شعر الدكتور الشهيد ورفاقه برييه، فالمطعم كان فارغاً تماماً، وبعد لحظات، دخل مسلحون وبدؤوا بإطلاق النار بوحشية على أعضاء الوفد الكردي الذين تخبطوا بدمائهم الزكية وسقطوا شهداء بيد الغدر.
تحقيقات ما بعد المجزرة
وقامت السلطات الألمانية بإجراء تحقيقات حول المجزرة، وأقامت محاكمة تمت فيها إدانة شخص إيراني يُدعى “كاظم دارابي”، إلى جانب متورطين آخرين وحُكم عليهم بالسجن المؤبد، ولم يتم توضيح ملابسات عملية الاغتيال، ولكن وفي العام 1997 أصدرت محكمة ألمانية مذكّرة توقيف بحق وزير المخابرات الإيرانية وقتها “علي فلاحيان”، بعد أن ظهر في التحقيقات أن المتهمين بتنفيذ “مجزرة ميكونوس”، قاموا بعملتهم بناء على تعليمات وزارة المخابرات الإيرانية.
والجدير بالذكر، أن سفير إيران السابق لدى ألمانيا “حسين موسويان” قد ذكر في كتابه (إيران والولايات المتحدة الماضي المكسور والطريق إلى المصالحة)، أنه بعد الحادث أرسل فلاحيان نائب وزير الأمن الداخلي “سعيد إمامي” المتهم بالمشاركة في تنظيم عملية ميكونوس إلى برلين وتحدث خلف الأبواب المغلقة مع كبار المسؤولين الألمان.