محمد شعبان أيوب-
الكُرد، أمة عريقة في تاريخ العالم، والعراقة هنا ليست مقتصرة على الوجود في المكان والزمان، لكنها مصحوبة بتأثير اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، إلا أن الأمر اللافت أن ذكر الكرد لا يأتي إلا مصحوباً بمعلومات شحيحة صدّرتها عنهم وسائل الإعلام، فلا يكاد يأتي ذكر الكرد إلا مُحمّلا بمجموعة من المآسي، منها المشكلات الحدودية، ومطالبهم بإنشاء وطنهم القوميّ، وغيرها. لكن قلّما عرف الناس تاريخ الكرد وإسهاماتهم الفذة في تاريخ الإسلام وحضارته، وهو تاريخ يستلزم منا كشف بعض الضوء عن مناطقه المظلمة في الخيال العربي المعاصر.
الانخراط والتعايش
يمتد وجود الكُرد اليوم في عدة دول كبرى في الشرق الأوسط هي إيران والعراق وسورية وتركيا، وبأعداد أقل في كلٍّ من أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، وفي بلاد الكُرد دارت بعض أشرس المعارك بين العرب والفرس، مثل جلُولاء ونهاوند حيث كان الفرس قد اتخذوها مناطق عسكرية يتمركزون فيها.
انخرط الكرد في الإسلام، وظهر منهم عدد من التابعين مثل ميمون الكردي أو ميمون بن جابان، وكان أحد حملة الحديث النبوي الشريف، وجاء اسمه في عدد من مصنفات الحديث مثل “أسد الغابة” لابن الأثير، و”تجريد أسماء الصحابة” للحافظ الذهبي، وقد انتقل ميمون من بلاد الكرد إلى المدينة المنورة ليتعلم الحديث النبوي والفقه على كبار الصحابة والتابعين في نهاية القرن الأول من الهجرة.
وكانت مناطق الكرد في أذربيجان وأرمينيا وشرق الأناضول في هذا التاريخ المبكر من الإسلام في عصر الراشدين والأمويين لا يتولاها إلا ثقاة القادة وكبار الأمراء، فمن أشهر ولاة الأمويين على هذه المناطق كان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويبدو أن مروان سار سيرة حسنة في الكرد، هذا فضلاً عن أن مروان كانت أمه كُردية وقد ورث عنها هيئة الكرد وشكلهم حتى كان الخليفة الأول ذي عينين زرقاوين؛ فوقفوا بجواره أثناء أزمة النزاع الداخلي بين الأمويين أنفسهم قبيل سقوطهم على يد العباسيين.
اعتمد العباسيون في مراحل كثيرة على عدد من كبار قادة الكرد، فقد ولّى الخليفة المعتمد على الله، على الموصل شخصية كردية هو علي بن داود الكردي، وفي عهد هذا الخليفة كان أمير الأهواز (خوزستان) هو محمد بن هزار مَرْد الكردي، وقد كان ابن هزار من جملة القادة الكرد الموالين للعباسيين بقوة حتى دخل في محاولات مستميتة لوأد ثورة الزنج في منطقة الأهواز لما هُزم على يد علي بن أبان قائد الزنج في هذه المنطقة.
كذلك كانت مناطق الكرد في ذلك العصر منطقة تماس وثغور بين الدولة العباسية وبين الدولة الرومية البيزنطية، وقد أبلى الكرد بلاءً حسناً في الدفاع بكل طاقتهم عن ديارهم وعن كافة المسلمين في أوقات ضعف الخلافة العباسية، وقد حفظ لنا التاريخ هذه البطولات، ففي عام 387هـ هاجم الجيش البيزنطي بلاد الشام، واستطاعت جيوشه التوغل حتى منطقة حمص التي كانت تتبع الدولة الفاطمية حينها، وحاصر حصن أفاميا، حتى أكل أهلها الجيف، فخرج إليهم أهل طرابلس الشام وقواتها ليدفعوا عن أهل حمص وأفاميا ما لاقوه من الحصار والهزيمة؛ إلا أن أهل طرابلس وقواتها العسكرية انهزمت هي الأخرى أمام القوة العسكرية البيزنطية، وقتلوا من المسلمين ألفي رجل، واستولوا على خيولهم وسلاحهم، وهنا أدرك أهل أفاميا الهلاك.
لكنّ حادثة فردية جرت في أرض المعركة غيّر من مشهد الهزيمة بالكلية، فيروي ابن أبي الهيجاء في تاريخه قائلاً: “كان ملك الروم قد وقفاً على رابية تُطل على ميدان المعركة، وبين يديه ولدان وله عشرة نفر من غلمانه، ليُشاهد ظفَرَ عسكره، فقصده كردي يُعرف بأبي الحجَر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد، وعليه درع وخوذة، وبيده اليمنى خِشت (حديدة حادّة)، وباليُسرى العنان وخِشت آخر، فظنّه الدُّقس مستأمِناً له ومستجيراً به، فلم يحفل به، ولا تحرّز منه، فلما دنا منه حمل عليه، والدقس متحصّن بدرعه، وضربه بالخِشت فقتله، وصاح بالمسلمين: قُتل عدوُّ الله! فرجع المسلمون، ونزل من كان في الحصن فأعانوهم، وانتصر المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم، وبات المسلمون غانمين مسرورين”.
ومن رحم السلاجقة خرجت الدولة الزنكية التي استطاع آق سنقر وابنه عماد الدين زنكي وهما من العناصر التركية أن يستولوا على مناطق الكرد، ويقيموا واحدة من أجمل القلاع والمدن الباقية حتى يومنا هذا، وهي مدينة العمادية المنسوبة إلى زنكي، وقد استطاع أن يسترد كافة المناطق الكردية التي كان يسيطر عليها الصليبيون في حملاتهم الصليبية الثانية مثل ديار بكر وماردين وكثير من قراها وحصونها، وقد أدرك عماد الدين الزنكي قيمة الكرد ومكانتهم، فتقرب منهم، ولعل هذا التقرب كان سببه الحادثة الشهيرة حين كاد أن يُقتل على يد الخليفة العباسي المسترشد بالله.
الكُرد…القوة القتالية الضاربة
فإن عماد الدين زنكي قد تلقى أمراً من السلطان السلجوقي بمواجهة الخليفة العباسي المسترشد بالله الذي كانت قوته في اطراد حينذاك، لكن الخليفة استطاع هزيمة زنكي وقواته، ولم يُنقذه إلا أن فتح له نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه قلعة تكريت التي كانوا يحكمونها، لتكون ملاذا له؛ لكن هذا الفعل أثار غضب الخليفة العباسي، الذي أمر بعزل نجم الدين وإجلائه عن القلعة.
ومن هنا أدرك عماد الدين زنكي أهمية استقطاب القوة القتالية الكردية، وقد وظّفها بذكاء شديد في قتال الصليبيين وفي توسيع رقعة الدولة الزنكية، ومن هنا حين لجأ إليه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه فقد قرر زنكي أن يكون من كبار الرجال عسكرياً وسياسياً، وقد حفظ الأخوان شيركوه وأيوب هذا الصنيع لعماد الدين زنكي، فأيدوه وقووا موقفه، وحين استشهد في قلعة جعبر سنة 541هـ/1146م قرروا الوقوف بجوار ابنه نور الدين محمود، ودعموه في الصعود إلى السلطة في مواجهة فريق آخر كان يريد سيف الدين غازي بن زنكي.
إن الأدلة كثيرة على أن الكُرد كانوا يشكلون قوة قتالية مهمة في جيش نور الدين، وكانوا يُباشرون الحروب بإخلاص، وحسبُنا دليلاً على ذلك أن نجم الدين وأخاه شيركوه كانا من أعظم قوّاده، وهما اللذان قاما بدور كبير في الانتصارات التي حققها نور الدين، وقد ساعده نجم الدين في فتح دمشق، وكان لفتحها أثر كبير؛ إذ أصبح نور الدين محمود يتاخم المناطق التي يسيطر عليها الصليبيون في بلاد الشام، وكانت سيطرته على دمشق وما يُجاورها من بلاد الشام تمهيداً لبسط سيطرته من بُعد على مصر، ووضع الفرنج فكّي كمّاشة على الصعيد الاستراتيجي.
ويبدو أن دور الكرد كمقاتلين في صفوف الجيش الزنكي بهذه الكثافة كان يرجع إلى ما اشتهروا به من الشجاعة والصبر على القتال، حتى إننا نرى القلقشندي في موسوعته “صبح الأعشى” يقول عن بعض طوائف الكرد إنهم “رجال حرب، وأقيال طعن وضرب… وهم ذوو شجاعة وحميّة”.
ذروة صعود الكُرد
كان أسد الدين شيركوه يقوم في دولة نور الدين بمنصب يُماثل منصب وزير الدفاع في عصرنا هذا، وكان نور الدين يكلفه بالمهام العسكرية الكبيرة، فيعيّنه قائداً على الجبهة الغربية في منطقة حمص لمواجهة الوجود والنفوذ الصليبي في هذه المناطق، يقول المؤرخ البنداري: “ولمّا كان ثغرُ حمص من أخطر الثغور؛ تعيّنَ أسدُ الدين لحمايته وحفظه ورعايته؛ لتفرّده بجدِّه واجتهاده وبأسه وشجاعته”. بل إننا نجد المؤرخ ابن الأثير يزيد على ذلك فيقول في مكانة أسد الدين شيركوه عند نور الدين محمود: “فقرّبه نورُ الدين، وأقطَعَه (أعطاه إقطاعاً)، ورأى منه في حروبه ومشاهدِه آثاراً يعجزُ عنها غيرُه لشجاعته وجُرأته، فزاده إقطاعاً وقُرباً، حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مُقدَّم عسكره”.
على أن أكبر وأعظم المهام العسكرية التي تقلدها أسد الدين شيركوه والتي بزغ فيها نجم صلاح الدين يوسف بن أيوب والذي يُعتبر ذروة المكانة والوجود الكردي في التاريخ الإسلامي كان في حملاتهم العسكرية الثلاثة على مصر، وكانت حملات عسكرية على درجة عالية من الخطورة لوجود الصليبيين كعائق بين الشام ومصر في فلسطين، وقد أبلى أسد الدين شيركوه وابن أخيه بلاء عجيباً رغم التوحيد الصليبي الفاطمي ضده.
وفي الخبر الذي ذكره المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث ابن أبي الهيجاء في معارك سنة 544هـ دليل آخر على الدور الفعّال للكرد عسكرياً في الدولة الزنكية، يقول: “وفيها جمع نور الدين وطلب من دمشق نجدة، فأرسلوا إليه الأمير مجاهد الدين بُزان الكردي، وجاء عسكر أخيه سيف الدين غازي، وسار إلى أنطاكية، وخرج إليه البرنس (الصليبي)، وجرت بينهما وقعة عظيمة، فكسرهم نور الدين الكسرة المشهورة، وفتح حارِم، وقتل الفرنج، وكان لأسد الدين شيركوه في هذه الوقعة اليدُ الطولى، وأبان عن شجاعة وبسالة… وكذلك مُجاهد الدين بُزان بن مامِين مُقدَّمُ العسكر الدمشقي أبان عن شجاعة وبراعة”.