وحدت السعودية والعراق جهودهما لتسجيل موقع “درب زبيدة” في قائمة التراث العالمي، بتنسيق من هيئة التراث السعودية ووزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، اللتين عملتا على التوصل إلى اتفاق في شأن تأهيل المحطات الأربع التاريخية في الأراضي العراقية، وكذلك تسع محطات أخرى تاريخية موجودة في الأراضي السعودية.
تعاون ثنائي في ملف الطريق التاريخي للحجاج المسلمين في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، التي لاقت زخماً في السنوات الماضية، من خلال لقاءات وزيارات رسمية رفيعة المستوى، والتي نجم عنها توقيع عدد من الاتفاقات التي رعاها “المجلس التنسيقي السعودي العراقي”، لتنفيذ مجموعة من الخطوات والأعمال المشتركة بين البلدين.
طريق الحج الكوفي
يمتد “درب زبيدة” أو ما يعرف في الماضي بـ”طريق الحج الكوفي” من مدينة الكوفة في العراق مروراً بشمال السعودية ووسطها وصولاً إلى مكة، ويبلغ طوله في الأراضي السعودية أكثر من 1400 كيلومتر، إذ يمر بخمس مناطق هي الحدود الشمالية، وحائل، والقصيم، والمدينة المنورة، ومكة. والطريق الكوفي من طرق التجارة القديمة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وازدادت أهميته مع ظهور الإسلام، وشهد مزيداً من الاهتمام، وازدهر خلال عصور الخلافة الإسلامية وتحديداً في العصر العباسي، واشتهر بـ”درب زبيدة”، نسبة إلى زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد “زبيدة بنت جعفر”، وذلك نظير الأعمال الخيرية، التي قامت بها، إضافة إلى المحطات العديدة، التي أمرت بإنشائها على امتداده.
الطريق وكتب التاريخ
و”درب زبيدة” من أهم الموضوعات التي تناولها كثير من المؤرخين والجغرافيين والرحالة في كتبهم، منهم ابن خرداذبة، وابن رسته، واليعقوبي، والمقدسي، والحمداني والحربي، وابن جبير، وابن بطوطة، كما استقطب الدرب عدداً من الرحالة الغربيين ممن تمكنوا من سلوك هذا الدرب، والكتابة عنه في القرنين الـ19 والـ20 الميلاديين، منهم الرحالة الفنلندي جورج فالين، والليدي آن بلنت التي ذكرته في كتابها “رحلة إلى بلاد نجد”. وعلى الرغم من أن “درب زبيدة” كان الطريق للحجاج من الكوفة إلى مكة، فإنه تعطل بشكل كبير بعد سـقوط بغداد على يد المغول عام 1258 ميلادي، ولم يعد مستخدماً إلا في فترات متقطعة، وبالتدريج اندثرت معظم محطات الطريق وتقلصت المحطات والمنازل إلى أطلال دارسة، وبقيت بعض الآبار والبرك صالحة للاستعمال، ولكن الغالبية العظمى منها غطتها الرمال مع مرور الزمن.
دراسة حديثة
وفي سياق متصل، أجرى المؤرخ السعودي سعد الراشد دراسة موسعة لطريق الكوفة – مكة “درب زبيدة”، شملت المواقع الأثرية على الطريق والمنشآت المائية وآثار الرصف، والتمهيد ومواقع أعالم الطريق. وقال: “إن مساره خطط بطريقة علمية وهندسية متقنة، إذ حددت اتجاهاته، وأقيمت على امتداده المحطات والمنازل والاستراحات، رصفت أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والمرحلة، ونظف الطريق من الجلاميد الصخرية، والعوائق في المناطق الوعرة والمرتفعات الجبلية، كما زود الطريق بأسلوب هندسي ونظام دقيق بتوزيع المنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون وقنوات، ووضعت على مساره بطريق حسابية موزونة الأعلام والمنارات والأميال (أحجار المسافة) والمشاعل والمواقد، ليهتدي بها المسافرون ليلاً ونهاراً”.
نتائج مميزة
وفي الصدد ذاته، أظهرت نتائج الدراسة العثور على عدد من أحجار المسافة “الأميال المكتوبة”، التي تحدد المسافات بقياس وحدات البريد والميل والفرسخ، وشواهد أثرية توضح إصلاحات الخليفة المهدي العباسي وأعمال الصيانة والتجديد التي تمت في عهد الخليفة المقتدر بالله، وتشكل الأعلام التي لا تزال آثارها باقية دلالة واضحة على تحديد مسار الطريق وفروعه.
كما وصف الراشد في دراسته الأعلام الموضوعة على طول الطريق، التي بنيت بالحجارة، وعلى شكل أبراج دائرية في معظمها، وترتفع عن سطح الأرض نحو ثلاثة أمتار، محددة حيث المسافة بين العلم والآخر نحو الميل (كيلومترين تقريباً) وتقترب الأعلام بعضها من بعض في بعض الأماكن بنحو نصف الميل “كيلومتر واحد تقريباً”، كما أن الأعلام تزداد قرب المحطات الرئيسة، التي تتجمع فيها الطرق أو تتفرع إلى جهات أخرى، أو قرب مواضع الآبار والبرك، ويمكن مشاهدة عشرات الأعلام على امتداد الطريق وقد تساقط البعض منها على أشكال أكوام حجرية.
مدينة فيد التاريخية
ومن أشهر المواقع الأثرية التي كانت تمثل مدناً محطات رئيسة كبيرة “زبالة، والثعلبية وفيد، وسميراء، والنقرة، والربذة، ومعدن بني سليم”. وأشارت الكشوفات الأثرية في مدينة فيد التاريخية، التي تعد من أقدم المدن الإسلامية في قلب الجزيرة العربية ومحطة رئيسة في منتصف طريق “درب زبيدة”، إلى وجود شبكة متطورة من الآبار والعيون والقنوات والبرك، وفيها مظاهر معمارية متنوعة تتركز في تشييد القصور المحصنة والمنازل والدور والمساجد والطرقات مدينة عربية كبيرة الحجم.
وتم الكشف عن أنماط متنوعة من المعثورات واللقى الأثرية للأواني الفخارية والخزفية والزجاجية والأدوات المعدنية والحجرية والمسكوكات.