تستخدم مرتزقة داعش التي يقبع متزعموها في المناطق، التي توفرها لهم دولة الاحتلال التركي عناصره حاليًا بشكل تدريجي تكتيكات الكر والفر لإحداث آثار مدمّرة، كما تستغل التركيز الدولي على التوتر بين إيران وإسرائيل، والصراعات في أوكرانيا وغزة لاستعادة السيطرة على البادية أو الصحراء ورفد عملياتها الإرهابية من الخزان البشري الذي تهيئه لنفسها في أفريقيا وشرق آسيا، وهذا ما يتطلب تضافر الجهود لمحاربته ووأد مشروعها في مهده؛ لأن داعش وبحسب تحركاته يخطط لعودة أكثر عدوانية وأوسع انتشاراً في العالم وأكبر تأثيراً.
من المعلوم أن مرتزقة داعش تقتات على اتساع رقعة الصراعات حول العالم؛ لأنها تشكل أراضي خصبة فعلية لمرتزقة التنظيم الإرهابي وغيره من التيارات الإرهابية ومن الأجدى اعتبار الدول المتصارعة، لأن المرتزقة ومشغليهم من أطرافٍ إقليمية على رأسها دولة الاحتلال التركي، تستثمر في الصراعات لكسب المال من جهة، وتوسيع نطاق عملياتها الإرهابية بالاعتماد على هؤلاء المرتزقة من جهة أخرى، كون هؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه لذا يتم الاستثمار بهم على أكمل وجه، ليطفو مؤخراً اسم مرتزقة داعش على السطح خصوصاً بعد التفجير الإرهابي، الذي ضرب مدينة زولينغن الألمانية، وهو ما أثبت للعالم أجمع أن داعش لا يزال بعبعاً يؤرق المجتمع الدولي المنشغل في صراعاتٍ متفرقة حول العالم.
مرتزقة داعش.. المحددات والتهديد
نجحت قوات سوريا الديمقراطية بالتعاون مع التحالف الدولي في تحرير الأرضي منذ أن أعلنا الحرب على مرتزقة داعش عام 2014 في سوريا وبفضل هذه الجهود، شهدت قدرات داعش على التخطيط للاعتداءات واجتذاب المرتزقة الأجانب والحصول على التمويل تراجعًا ملحوظًا، إلا أنه ما زال داعش يمثّل تهديدًا خطيرًا للأمن الدولي، ولمنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ خاص.
وعلى الرغم من محاولات قطع موارد تمويل مرتزقة داعش على الأرض، لا زالت هناك جهات إقليمية تستثمر بمرتزقة داعش، وتحاول خلق فرص نجاة لهم، ففي المناطق المحتلة في شمال سوريا عمل داعش على خلق مناخٍ آمن لمتزعميهم ويستخدمهم ورقة تارةً في وجه مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، وتاراتٍ أخرى في وجه دول الاتحاد الأوروبي بعد أن يؤمن لهم طريق العبور العكسي.
بينما تتمثل محددات الخطر، التي تمثلها مرتزقة داعش في استمرار وجود خلايا نائمة حيناً ونشطة أحياناً على الساحة العراقية والسورية إلى جانب استمرار وجود مجموعات إرهابية في أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، كما أن مرتزقة داعش وبدعمٍ من مشغليها وعلى رأسها دولة الاحتلال التركي، الذي يمول ويوفر البيئة الأمنة لمتزعمي داعش، للقيام بدعاية غاية في التعقيد، تدعو إلى استخدام العنف، واستغلال البقاع الرخوة سياسياً وأمنياً ومحاولة نشر أفكار داعش مجدداً.
يوصف داعش اليوم بحسب الباحثين في شؤون الإرهاب أنه متضائل لكنه لم ينته تماماً مؤكدين أن متزعميه الأساسيين ما زالوا متواجدين داخل سوريا، في إشارة إلى المناطق المحتلة التي خلقت منها دولة الاحتلال التركي حاضنة لمتزعمي مرتزقة داعش، لكن داعش يبين الخبراء، ويحذرون، أنه وسّع نطاق انتشاره خارج سوريا عبر عدة قارات.
ويقع الجزء الأكبر من الهجمات التي تُنفذ باسم المرتزقة حالياً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وفي أوروبا والشرق الأوسط، ويُعد فرع مرتزقة داعش في ولاية خراسان هو الأكثر خطورة، إذ تشير إليه أصابع الاتهام وعلى نطاق واسع، بالمسؤولية عن الهجمات، التي أسفرت عن مئات الإصابات هذا العام في العاصمة الروسية موسكو، وكرمان في إيران.
أوروبا في عين العاصفة
أوروبا عُدَّت هدفاً ووجهةً لمرتزقة داعش في ذروة قوتها، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث تمكنت المرتزقة من شن هجمات كبيرة أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا في أوروبا، مثل الهجوم على قاعة باتاكلان للحفلات الموسيقية في باريس عام 2015 والذي خلف 130 قتيلا.
وخضع من نفذوا تلك العمليات للتدريب في سوريا ومن ثم عبروا حدوداً متعددة بسهولة كبيرة، وبتيسير من دولة الاحتلال التركي ولم يواجهوا أي مشكلة في الحصول على أسلحة آلية مثل الكلاشينكوف من البلقان عن طريق المافيات، التي تعمل حلقات ربط بين دول العالم ومرتزقة داعش، والتي عملت بدورها على تسهيل تجميعهم من دول العالم وإيصالهم إلى سوريا والعراق.
لذا؛ فإن أوروبا لا تزال تشعر بقلق عميق أكثر من أي وقت مضى بشأن من ينشطون بمفردهم المتشددون، الذين لديهم دوافع ذاتية، أو يعانون من اضطرابات عقلية واجتماعية أو الذين يصبحون متطرفين بسبب الدعاية المتشددة عبر الإنترنت أو بسبب تغلغل الاستخبارات، التي تعمل على حشد وتوجيه العناصر الإرهابية، التي أخذت شكل حرب الذئاب المنفردة، وهو ما تتمتع به استخبارات الاحتلال التركي، التي تنتهج نهج الذئاب الرمادية بامتياز في أوروبا.
وهذا ما يجعل أوروبا في مرمى البصر ويُظهر ذلك في الهجوم الذي وقع في آذار 2024 على قاعة مدينة كروكوس في موسكو، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 140 شخصا، وهو ما يؤكد أن مرتزقة داعش لا زالت قادرة على اغتنام الفرصة لضرب أي بقعة في العالم عندما تكون هذه البقعة منشغلة في ملفات أخرى، كما هو الحال على الساحة الروسية بسبب الانشغال في الحرب بأوكرانيا.
كما ساهم انتشار الأسلحة في أفغانستان، والشرق الأوسط، وأفريقيا لاسيما استمرار تزايد استخدام داعش لمنظومات الطائرات المسيرة والأجهزة المتفجرة يدوية الصنع، وأبلغت دول عدة عن استمرار انتشار الأسلحة، التي مصدرها المخزونات المتبقية في أفغانستان منذ استيلاء طالبان على السلطة.
وفي أجزاء من أفريقيا، توجد جيوب كبيرة يغلب عليها عناصر ثلاثة، وهي الفوضى، واليأس، وسوء الإدارة، وفي السنوات الأخيرة، شهدت بلدان حزام الساحل الأفريقي ــ وخاصة مالي والنيجر وبوركينا فاسو ــ انقلابات عسكرية، ما أدى إلى زيادة عدم الاستقرار فيها.
فيما طُردت القوات الفرنسية والأميركية والاتحاد الأوروبي، التي كانت تساعد الحكومات المحلية على إبعاد تهديدات المتشددين، والتي لم تكن ناجحة دائما، أو استبدلت بمرتزقة روس وهو ما مكن مرتزقة داعش من الاعتماد على خمسة فروع في أفريقيا، والتي يشار إليها باسم الولايات، وتنتشر في غرب أفريقيا، ومنطقة بحيرة تشاد، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وشمال موزمبيق.
ولم تتحول أفريقيا إلى نقطة جذب جغرافية للمتشددين الدوليين كما كان الحال في سوريا قبل عشر سنوات، ولا يوجد خط يمكن من خلاله للمتطوعين، أن يتدفقوا كما حدث على الطريق الذي كان يربط الحدود التركية السورية؛ لأن دولة الاحتلال غير مسيطرة بشكل كبير، وليس لها حدود مباشرة يمكن الاعتماد عليها كما كان الحال على الساحتين السورية والعراقية، إنما تستغل مرتزقة داعش انعدام فرص العمل والحياة أمام الشباب الأفريقي لتغرر بهم وتستخدمهم كوقود حرب تحقيقاً لمآربها.
قد تكون الصراعات الصغيرة والمحلية، والتي تعد الأعنف للغاية في أفريقيا، على بعد آلاف الأميال من شواطئ أوروبا، ولكن مع تزايد التهديد، الذي يشكله المتشددون هناك؛ فإن ذلك سيدفع حتما المزيد من المهاجرين من أفريقيا إلى البحث عن حياة أكثر أمانا في أوروبا حاملين معهم الأفكار، التي عمدت مرتزقة داعش على تكريسها ويمكنها وضع كونترول مباشر على هؤلاء الشبان وتستخدمهم لتنفيذ عمليات إرهابية تضرب الصميم الأوروبي.
داعش… التمويل والدعم
رغم أن مرتزقة داعش والجماعات المنتسبة إليه ظلوا يواجهون استنزافاً في القيادة ونكسات مالية، إلا أنهم احتفظوا بقدرتهم على شن هجمات إرهابية والتخطيط لتهديد خارج مناطق عملياتهم وظل خطر عودة ظهور داعش قائما في سوريا والعراق وقد ساهمت أنشطة الجماعات المنتسبة لداعش في تدهور الوضع في أجزاء من غرب أفريقيا ومنطقة الساحل.
الأمم المتحدة تحدثت مراراً عن دعم الدول الأعضاء في مكافحة داعش والجماعات الإرهابية الأخرى بما في ذلك في تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ومن خلال اتفاق الأمم المتحدة العالمي لتنسيق مكافحة الإرهاب.
لكنها تحدثت في آخر تقرير لها بخصوص خطر داعش ومصادر تمويله أن الاحتياطات المتاحة تتراوح بين 10 و25 مليون دولار وهذه الأرقام يؤكد خبراء في شؤون الجماعات الإرهابية أنه أكبر بكثير، سيما أن مرتزقة داعش تتلقى دعماً كبيراً من بعض الدول التي استفادت من داعش كبنادق مأجورة وعلى رأسها دولة الاحتلال التركي.
بينما بقيت مصادر تمويل داعش والجماعات المنتسبة إليه خصوصاً غرب أفريقيا تعتمد على جمع الأموال محلياً من الأنشطة الإجرامية بما فيها ابتزاز الصيادين والمزارعين وسرقة الماشية، والاختطاف؛ طلبا للفدية وبدأ مؤخراً في استكشاف الأنشطة الزراعية مثل الفلفل الأحمر في البلدان المجاورة لبحيرة تشاد.
والأهم من ذلك أن مرتزقة داعش تعتمد على نقل أموالها من خلال زيادة استخدام العملات المشفرة، التي يعمل جزء من المرتزقة على جمعها عن طريق وسائل التواصل الافتراضي، كما اكسبتها هذه الطريقة سهولة ومرونة في تحصيل الأموال ونقلها وتداولها إلى جانب المعاملات المالية المستخدمة من جانب داعش والجماعات المنتسبة إليه ظلت تتمثل في حاملي الأموال النقدية والأنظمة البديلة للتحويل المالي “الحوالة”.
استراتيجيات تبعث على القلق
من متابعة نشاط مرتزقة داعش يبدو واضحاً أنها تراجعت إلى أدنى مستوياتها في العراق، وتقدمت بشكل واضح في سوريا عدديا وفي ولايات أخرى نوعياً، حسبما يوضح الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية وما ساهم في هذا الواقع هو الانشغال الجمعي في الصراعات الإقليمية والدولية والتي يعمل داعش على استثمارها بشكلٍ كبير
فمرتزقة داعش استغلت حالة التصعيد التي وقعت بين إسرائيل وإيران لتجديد نشاطها في سوريا إذ تمكنت من استعادة أجزاء من الطريق السريع الحيوي، الذي يفصل بين مدينتي الرقة ودير الزور، حيث شهدت الأشهر الأربعة الماضية أكثر من 100 هجوم في المنطقة، وهو ما أثار مخاوف من أن المرتزقة تعيد تجميع صفوفها لتصبح أكثر عدوانية في أنشطتها القتالية.
وعلى الرغم من أن مرتزقة داعش بقيت خاملة إلى حد كبير لسنوات أعقبت القضاء عليه عسكرياً في سوريا والعراق، لكنها وعلى مدى العامين الماضيين، نفذت 455 هجوما في العراق، فيما تم توثيق عمليات المرتزقة في إقليم شمال وشرق سوريا الذي زادت نسبتها 40% بدءًا من كانون الثاني 2024، وهي زيادة ملحوظة للمجموعة التي من المفترض أنه تم القضاء عليها.
وفي الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، وقع ما لا يقل عن 135 هجومًا في منطقة البادية وحدها، وفي آذار وحده، نفذّ داعش ما لا يقل عن 69 هجومًا متوزعة على المدن التي تسيطر عليها حكومة دمشق ما أسفر عن مقتل 84 جنديًا سوريًا و44 مدنيًا.
فمرتزقة داعش باتت أشبه بوباء يعود للظهور بسرعة إذ سقط مئات الضحايا في الأشهر الأخيرة، عسكريون ومدنيون، وحتى جامعو الكمأة البسطاء تمت مطاردتهم وقتلهم بدم بارد عن طريق الإعدام، ومن هنا يتضح للعيان أنه من المستحيل السيطرة الكاملة على الصحراء، أو حتى مراقبتها بالنسبة لأي جيش لأن مرتزقة داعش غالباً ما تقيم في مناطق غير مأهولة، وتوفّر الصحراء الملاذ الجغرافي المثالي لهم للاختباء في مساحاتها الشاسعة والهجوم ليلاً.