سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

خان الخياطين … تراث نحو الاندثار

في قلب مدينة طرابلس القديمة شمال لبنان، يستمر خان الخياطين في تقديم شهادته على العصر وحكاية صمود يخطّها الحِرفي بخيوط القصب الذهبية.
عايش السوق مرحلتين: مرحلة طرابلس – الشام حيث نجح في لعب دور الوسيط بين العمق العربي والعالم الأوروبي، ومرحلة الانتقال من عهد المتصرفية إلى لبنان الكبير والتعايش بين الشروال والزي الفرنجي. ومع تعاقب الأزمنة، حافظ الخان على فرادته وشكّل أيقونة معمارية جميلة بفعل قناطره وعقوده الحجرية، والمحال التي توزّعت على طوال السوق التي رُصفت طريقها الرخامية لاستقبال المارة.
الحِرفي الأخير
طوال عقود، قدّم الخان نموذجاً للحِرفي اللبناني الماهر الذي صنع أفضل أنواع الشروال والقميص والقنباز. ومع التحوّل الحداثي، هجر عدد كبير من الفنانين مرغمين مهنتهم الأحبّ. ولم يبقَ إلا آحاد يتقنون صناعة الزي العربي.
يُعتبر أبو منيب القطمة (83 سنة) أكبر الخياطين سناً وخبرة. ورث المهنة عن والده الشهير بنوري الحموي نسبةً إلى مدينة حماة، وتشهد الصور التي يزدان بها المحل على الزمن الجميل، حيث كان يصل الليل بالنهار لتأمين طلبات “كبار البلد” و”النخب” وتفصيل البدلات الشرقية والغربية. تحفظ ذكريات القطمة عدداً كبيراً من التواريخ، فهو ترعرع في سوق تتوسط البلد وتشكّل الشريان الأساسي للحياة الاقتصادية في شمال لبنان.
 وما زال يتمسك ببعض المقتنيات التي تُعتبر إرثاً عائلياً. فداخل متحف القطمة، تتربّع ماكينة خياطة “سينجر” في زاوية المحل، إلى جانبها كراسي القش والخيزران، وتحيط بها مجموعة من الشراويل والطرابيش الأصيلة التي طال انتظارها لزبائنها.
تتردّد في أنحاء المحل أخبار عن نجاحات كثيرة حققها صاحب المهنة، الذي ربطته صلة وثيقة بـ”فرقة كركلا”، أشهر فرق الرقص الشعبي اللبناني.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل حلّ في بيوت المغتربين اللبنانيين أينما حلّوا، وتمكّن من وضع بصمته الخاصة على التراث اللبناني. اليوم لم يعد القطمة يتردّد كثيراً إلى محترفه، لأن الهمّة ضعفت والطلب على الأزياء القديمة بات نادراً. وفي غالبية الأحيان، يجلس خارجاً على كرسيه يتبادل السلام مع المارة ويلتقي أناساً عرفهم.
الإرث العائلي
سلّم القطمة أمانة الحرفة لابنه البكر منيب. يُقاوم الحرفي الشاب الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ويحاول قدر الإمكان مواجهة التحدّيات والاستجابة لمتطلّبات السوق. ويوضح منيب أن الاستمرارية فرضت بعض التنازلات، على غرار إدخال بعض السلع الجاهزة والمصنّعة آلياً كالـ”جلابيات” و”عصي الخيزران” و”سجاد الصلاة” والكوفيات وغيرها من البضائع التي ينظر إليها الحرفي التقليدي نظرة “المنافس الأجنبي والغريب”.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ انتقل الحرفي إلى اعتماد استراتيجية جديدة تقوم على التكيّف مع المناسبات. ويضع في روزنامته بعض الأعياد كالمولد النبوي الشريف وعيد الأضحى وعيدَيْ الاستقلال والجيش. بدأ باستهداف شريحة الأطفال والمراهقين من خلال خياطة الشراويل وعرض الطرابيش الصغيرة، إضافةً إلى عرض الزي العسكري.
لم يُبعد الهمّ التجاري وغريزة البقاء والاستمرار منيب عن الخياطة، واستمر بحياكة بعض الشراويل والقمصان التراثية على أمل أن يأتي على عجل زبون ما.
كما يلفت إلى أن الشريحة التي تلبس الشروال أصبحت نادرة، ومن بقي منهم على قيد الحياة بات طاعناً في السن، بينما يفضّل بعضهم ترميم بدلته القديمة على شراء جديدة لأنها عالية الكلفة. تبلغ كلفة الشروال المصنوع من الجوخ الإنجليزي وخيط القصب حوالى 300 دولار، وبات هذا الرقم يشكّل ثروة بالنسبة إلى المواطن اللبناني في ظلّ تدهور سعر صرف الليرة الوطنية لحدود قياسية. وتعود الكلفة الأساسية إلى سعر القماش المرتفع جداً مقارنةً بغيره من مواد الخام. لذلك تحوّل منيب إلى صناعة الزي العربي من أقمشة رخيصة نسبياً، وأقبل على طلبها وشرائها عدد كبير من المطاعم وأصحاب المحال التراثية والمتاحف وفرق العروض الفنية.
في انتظار المُغترب اللبناني
يرتبط خان الخياطين بصلة وثيقة مع المغترب اللبناني. ويؤكد حرفيو الخان “شكّل هؤلاء المنقذ للخان خلال الفترة الممتدة من 1990م حتى 2010م، إذ كانوا يقصدونه لشراء الزي التراثي ليرافقهم في رحلة ما وراء البحار. ارتبط الشروال والقنباز والطربوش باللاوعي الجماعي لسكان جبل لبنان ونوستالجيا العودة إلى الجذور. ويلفت منيب إلى تواصل عدد كبير من هؤلاء معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالصور التي يعرضها على صفحته تحرّك فيهم الحنين “لأنهم ظنوا أنه لم يعد هناك وجود لهذه الأزياء في الأسواق اللبنانية”.
لا يُعوّل خان الخياطين كثيراً في تحريك العجلة الاقتصادية على السياح الأجانب، فهم لا يشترون هذه الملابس لأنها “ليست من إرثهم الثقافي”، ويفضلون “التقاط الصور الفوتوغرافية” أو “شراء بعض التذكارات الرمزية كالكوفية أو القطع الصغيرة”. لذلك يركّزون على السياحة الداخلية التي ازدادت خلال العقد الأخير، وكذلك على قدوم المغترب إلى لبنان.
في المقابل، يحمّل حرفيو خان الخياطين وزارتَيْ السياحة والثقافة مسؤولية دعم الحرف التقليدية، لأن زوال هذه الحرفة يساوي زوال جزء من الذاكرة اللبنانية والهوية الجماعية لشعب بأكمله. ويقترح هؤلاء دعماً جدّياً لحرفة تفصيل الزي العربي وعدم اقتصارها على الأحاديث الصحافية والدعوة إلى المشاركة في المعارض.
الخياطة حل بديل ومؤقت
شهد العقدان الأخيران انقلاباً داخل خان الخياطين، حيث تحوّلت أكثرية الورش من صناعة الزي العربي القديم إلى الخياطة، فيما بدأ خيّاطون كثر بالبحث عن بديل لأنهم يفكرون جدّياً بالإقفال.
تُعتبر السيدة فاطمة التكريتي نموذجاً عن السيدات الصامدات داخل السوق، فهي لم تتخلَّ حتى اليوم عن حلم بدأ في ثمانينيات القرن الماضي وراح يتلاشى مع الوقت، تحديداً مع أحداث طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة التي أثّرت في صورة المدينة ومكانتها الاقتصادية. وتشير إلى صعوبات جدّية تهدّد الخان، حيث بدأ اليأس يدبّ على وقع الضربات المتتابعة، وشكّلت أزمة كورونا وارتفاع الدولار ضربة قاصمة لورش الخياطة والتدريب المهني.
أسهمت التكريتي مع رفاقها الحرفيين في بعث الحياة في السوق، إلّا أنّ هذه الحياة مرتبطة بقدرات الناس المادية وتطوّر عاداتهم الاجتماعية. مع تخلّي الزبائن عن خياطة ملابسهم لصالح الألبسة الجاهزة رخيصة الثمن، تحوّلت مع أقرانها إلى تعديل الملابس وحياكة بعض القطع المنخفضة الكلفة كـ”الجلابيب” و”أثواب الصلاة”.
كما أدى ارتفاع أسعار المواد الأولية إلى تكبيل أيدي الحرفيين، فتعطي التكريتي مثالاً “بكرة الخيطان التي كان لا يتجاوز ثمنها 2000 ليرة (دولار و20 سنتاً) بأحسن حال، تضاعف ثمنها ستة أضعاف”، وكلفة تقصير البنطال لم تَعُد في متناول عامة الناس الذين تقتصر زيارتهم على السؤال.
وتؤكد أن الحرفة لم تعُد تُغطّي تكاليف المواد الأولية وأجرة محال الأوقاف وأمر الإقفال لا ينقصه سوى تلاوة الفاتحة عن روحه.
وتتساءل عن قدرة التحمّل لدى المواطن اللبناني الذي “أصبح همّه الأول والأخير تأمين خبزه وقوت أولاده، مفضّلاً ثني ثوبه في المنزل على دفع المال للخياط”.