حنان عثمان
لقد دأبت إيران منذ عقود على العيش على مبدأ الصوت الواحد دون أية معارضة، ولم تتوقف منذ السبعينات عن التنكيل بالنساء ومختلف الأصوات التقدمية الداعية لفصل الدين عن الدولة، ولإعطاء المرأة حريتها في اللباس والتنقل والعيش بأمان بعيداً عن أعين وقمع السلطات الأمنية بأجهزتها كافة.
فبعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية قلّص آية الله الخميني حقوق النساء، التي تمتعنَ بها في عهد الشاه، فقد تم إلغاء قانون حماية الأسرة، وأجبرت موظفات الحكومة على ارتداء زي إسلامي موحد، ومنعت النساء من أن يعملن قاضيات، وتم الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، كما انخفض سن الزواج القانوني للإناث فأصبح تسع سنوات (ثم ارتفع لـ13 سنة)، ومنعت النساء من حضور المدارس المنتظمة.
قمع ثورة المرأة
وما تزال الانتهاكات والتجاوزات مستمرة من السلطات الإيرانية بحق الأصوات الحرة المناهضة لها. فمنذ استشهاد الفتاة الكردية جينا/مهسا أميني، لم تهدأ إيران، وأخذت تنكل بالنساء لتخويفهن وإسكاتهن وإبعادهن عن الحياة العامة والسياسية. كما زجّت بالآلاف من المشاركين في انتفاضة ثورة المرأة شباباً وشابات، صغاراً وعجائز؛ ووصل الأمر حد تسميم الطالبات، وفصل المدرّسين، والمدرسات والمعلّمين، والمعلمات؛ بالإضافة إلى تعذيب المسجونين نفسياً وجسدياً.
حيث أثارت استشهاد جينا أميني على يد ما تسمى بشرطة الأخلاق غضباً عارماً في أنحاء إيران بشأن قضايا كثيرة وحياتية، من بينها تقييد الحريات الشخصية بما يشمل فرض قيود صارمة على ملابس النساء، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الذي يترنح تحت وطأة العقوبات.
أحرقت النساء حجابهن، وهن يرقصن، فيما أقدم متظاهرون شبان على حرق صور رجال الدين، فكُسِرت المحرمات ووُضع النظام الإسلامي القائم في طهران أمام تحد غير مسبوق.
ومن الجدير بالذكر أنه، بعد الانتخابات الحكومية الأخيرة، واستلام الإصلاحيين دفة الرئاسة في إيران، ما تزال أحكام الإعدام تصدر وتطبَّق بحق المعتقلين والمعتقلات في إيران بوتيرة غير مسبوقة، وذلك بتهمٍ لا أصل لها من الصحة، من قبيل: “الدعاية ضد الحكومة” و”مساعدة جماعات المعارضة” و”التمرد” و”المشاركة في انتفاضات (المرأة، الحياة، الحرية)”.
وحسبما أعلنت منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ففي شهرَي تموز وآب الماضيَين فقط، تم إعدام أكثر من 60 شخصاً. ومنذ بداية العام الجاري، أعدمَت السلطات الإيرانية أكثر من 400 شخص، يشكل الكرد أعلى نسبة منهم، إذ تصل إلى 27. بمعنى آخر، أنه بالمجمل يتم إعدام شخصَين كل يوم، وهذه نسبة غير قليلة وغير مسبوقة، ولا يمكن إدراجها إلا في خانة جرائم ضد الإنسانية عموماً، وضد الكرد خصوصاً، وضد المرأة الكردية.
مؤخراً، وضمن استمرار سلسلة الأحكام هذه، أعلنت السلطات الإيرانية صدور الحكم بالإعدام على “شريفة محمدي” و”بخشان عزيزي”. ويأتي هذا الحكم بعد التنكيل بهما، وحرمانهما من رؤية أسرتيهما ومن حقهما في المحاكمة العادلة وفق ما تضمنته القوانين الدولية والاتفاقيات الراعية لحقوق الإنسان والنساء. كما حرمت عشرات المعتقلات السياسيات من حق الزيارة لمشاركتهن في الإضراب عن الطعام احتجاجاً على أحكام الإعدام الصادرة بحق هاتَين الناشطتين.
مساندة انتفاضة الحرية والديمقراطية
هذا كله أثار الجدل النسوي الإقليمي والدولي، وقد كان لنا في “التحالف النسائي الديمقراطي الإقليمي” “تحالف ندى” موقف واضح وشفاف من هذه الأحكام الجائرة، إذ نَرى أن النساء ما يزلن يُعامَلن بدونيةٍ ومهانة، وأن المعتقلات هنّ عبارة عن رهائن يواجهن الويلات أمام مرأى ومسمع العالم.
وقد أكدنا في بياننا في هذا الشأن على دعمنا الكامل لحملة “لا للإعدام، نعم للحياة الحرة!” الهادفة إلى إيقاف حكم الإعدام بحق السياسيتَين، بخشان، وشريفة، وكل المعتقلات، حتى لا يشعرن أنهن وحيدات في وجه النظام الإيراني القمعي المعادي للنساء.
وبالعموم؛ فإننا نجد أن نساء إيران وروجهلات كردستان قد أخرَجنَ نضالهن من أجل الوجود والحرية والهوية إلى النور، من خلال شعار ثورتهن، الذي دوّى عالمياً في 2022، أي “المرأة، الحياة، الحرية”؛ وأضفن لبنة أخرى على درب النضال النسائي التحرري، وحوّلن بنضالهن هذا الشعار إلى فلسفة مادية وملموسة.
كما يمكننا القول، إن الثورة الجماهيرية في إيران وروجهلات هي الأولى من نوعها إقليمياً وعالمياً، من حيث التفافها مباشرةً حول فلسفةٍ متمحورة حول قضايا المرأة وحرية المرأة، وهو ما يجسده شعارها المعروف. وهذا أمر ليس بالبسيط، بل له دلالات كبرى وعظيمة. هناك مقولة: “يأتي الفجر بعد ظلام دامس”. وإذا ما نظرنا إلى مدى القمع والتهميش اللذين تتعرض فيهما المرأة في إيران من النواحي عامة، يمكننا الإدراك بصورة أفضل أسباب انطلاق هذه الثورة الجماهيرية الحاشدة ملتفةً حول قضية حرية المرأة، باعتبارها قضية محورية معنية بمجالات الحياة كافة، وعلى الأصعدة والمستويات عامة.
وربما هذا تحدٍّ يزيد للسلطات الإيرانية بأجهزتها كافة، فما كان منها سوى قمع هذه الثورة ومحاولة إجهاضها، إدراكاً منها أن الثورة التي تلتف حول قضية حرية المرأة، بل والتي تكون المرأة رائدتها بامتياز، هي من تثبت الحقيقة في نهاية المطاف؛ ولذلك نجد هذه الهجمات الممنهجة ضد المشاركين والمشاركات في تلك الانتفاضات الحاشدة في مختلف مدن ومناطق إيران، والتي تصل حد الإعدام بصورة أو وتيرة غير مسبوقة، بالإضافة إلى التعذيب والتنكيل وما إلى ذلك.
وإذا ما حاولنا تفسير هذه الممارسات بشكل آخر، فيمكننا القول: إن هذه الأحكام والممارسات القمعية، ما هي إلا (ثورة مضادة) ومعادية لثورة المرأة في محاولة يائسة للحيلولة دون إنجاز هذه الثورة النسائية برؤية فلسفية حقيقية وأصيلة ومرتبطة بالحياة والحرية على قد التفافها حول المرأة.
استهداف المرأة ثنيٌ عن نضالها
وللتأكيد على قولنا هذا، يكفي النظر إلى الثورة النسائية الرائدة في روج آفا/ إقليم شمال شرق سوريا، والتي تلهمنا بدروس عظيمة وفريدة من حيث كيفية ترجمة النظريات التقدمية المعاصرة إلى مشاريع ملموسة وشفافة ومتطورة معنية ببناء الحياة الحرة بريادة نسائية على شكل منظومة متكاملة وشاملة.
لكننا في الوقت نفسه، نجد كيف تقوم الدولة التركية الاحتلالية بمهاجمة هذه الثورة الفريدة والوليدة حديثاً، وبالضغط على الكثير من الجهات والدول والقوى لمساندتها ودعمها في نسف هذه التجربة، لأنها، هي أيضاً، تعرف أن الثورة التي تَرودها النساء، إنما ستحقق مكاسب عظيمة تؤدي إلى دك دعائم الاحتلال، وعنجهيته، ليس فقط في روج آفا، بل وفي مختلف بلدان ومناطق الشرق الأوسط.
من هنا، نرى كيف تتفنن الدولة التركية في استهداف النساء الحرائر والناشطات في مختلف مناطق روج آفا، سواءً بالقصف الجوي أو المدفعي أو ما شابه، وكيف تغتالهن وتدرّ الأموال الطائلة للوصول إليهن من أجل قتلهن.
وفي كِلا المثالَين، الإيراني والتركي، نجد أن هذين النظامين الأبويين، يودّان توجيه رسالة واضحة لمختلف النساء، أنه في حال فكّرتنّ في النضال والتشبث بالهوية والوجود والحياة الحرة، فإن مصيركن هو القتل والاغتيال والإعدام والتنكيل والتعذيب وحتى الاغتصاب…
أي أننا أمام ظاهرة “العنف السياسي”، التي باتت كارثة تمس كل نساء المنطقة بل ونساء العالم أجمع. فأحكام الإعدام الصادرة مؤخراً بحق ناشطات فاعلات في مختلف البلدان، بدءاً من اليمن وحتى السودان، ومن إيران وحتى ليبيا؛ هذا بالإضافة إلى ما تعانيه النساء والأطفال في فلسطين جرّاء العدوان الصهيوني، ومشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية المطروح مؤخراً في العراق، وكذلك الضغوط القاسية التي تتعرض لها النساء في أفغانستان؛ كل ذلك دليل على أن المنظومة الأبوية العابرة للحدود هي منظومة معادية للمرأة عموماً وللمرأة المناضلة والفاعلة في مجتمعها خصوصاً.
المقاومة النسائية تتصاعد
بالمقابل، فإن المقاومة النسائية تتصاعد وتنمو يوماً بعد يوم في وجه كابوس النظام الأبوي، مؤكدة على استحالة العيش في كنفه من الآن فصاعداً. وهذا ما يمد الشعوب والقوى الديمقراطية بالأمل والعزيمة والإيمان والقناعة بأن تحقيق الحرية المجتمعية يمر حتماً من تكريس حرية المرأة.
بمعنى آخر، فالصراع الدائر حالياً، في إيران ومختلف بلدان المنطقة، يدل على تصاعد وتأجج الصراع بين المنظومة الأبوية التي تمثل قوة الشر وتفرض الكابوس المظلم والفوضى العمياء على الحياة الاجتماعية لترهيب الشعوب والمجتمعات، ويمكننا النظر إلى أحكام الإعدام من هذه الزاوية؛ وبين القوى الديمقراطية والنساء المناضلات التي تمثل قوة الخير الهادفة إلى بناء الحياة الحرة على أساس مجتمع حر وفرد حر، ويمكننا النظر إلى الثورة النسائية في إيران، روجهلات، وفي روج آفا ـ شمال شرق سوريا من هذه الزاوية، بالإضافة إلى مقاومة النساء الأفغانيات والفلسطينيات ونساء المنطقة والعالم أيضاً.
أي أنه صراع أيديولوجي وفكري بين فلسفتين متناقضتين كلياً، كل واحدة منهما تسعى إلى فرض أو تعزيز نموذج الحياة الاجتماعية الذي ترتئيه، ويتناغم مع مصالحها أو رؤيتها للحياة.
وبما أن هجمات المنظومة الأبوية عابرة للحدود والقوميات والأثنيات، مثلما ذكرنا أعلاه، فإن المقاومة النسائية يجب أن تكون عابرة لكل الحدود المصطنعة التي تشتت قوة المرأة أو تكبح جماحها أو تكتم صوتها. وهنا تبرز أهمية التحالف النسائي إقليمياً وعالمياً.
فمشاكلنا وهمومنا وقضايانا نحن النساء واحدة ومتشابهة إلى حد كبير، ونواجه نظاماً عالمياً أبوياً معادياً لنا جميعاً. بالتالي، يجب أن يكون نضالنا أيضاً ذا بُعد إقليمي وعالمي، بقدر كونه محلياً أو وطنياً، لكي نتمكن من التغلب على المنظومة المعادية لنا.
من ناحية أخرى، لا بد لنا من اعتماد هذه الرؤية النسائية الفلسفية الأصيلة والبديلة والجذرية، المتمثلة في شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، وتحويلها إلى استراتيجية ملموسة، وصياغة خطة استراتيجية متماهية معها، وبناء منظومتنا النسائية البديلة، المتمثلة في مشروع “الكونفدرالية النسائية الديمقراطية العالمية”؛ وأن ننظم أنفسنا وصفوفنا بمتانة، وذلك كخطوة لا بد منها ولا غنى عنها من أجل ضمان نضالنا ومكتسباتنا ومنجزاتنا، وحمايتها من الهجمات الأبوية المضادة على اختلاف أشكالها وأنواعها ودرجاتها.
ومن هنا تأتي رؤية تحالف ندى النسائي الإقليمي، وقناعته التامة بضرورة التشبيك والتحالفات النسائية الوطيدة في هذا السياق، وإيمانه العميق بمدى أهمية وضرورة هذه الفلسفة والرؤية النسائية البديلة.