القول إنّ أعقدَ المشكلاتِ يُحلُّ بأيسر الحلولِ، صحيحٌ، وكلّ حديثٍ عن عُقدٍ هو محاولاتٌ فرضِ عراقيلَ تعطّلُ اللجوءَ الحلّ اليسيرَ، بالانطلاقِ من أبسط قاعدةٍ يتفقُ حولها الجميعُ، ووقف أيّ حربٍ يبدأ من فكرةِ حقِّ الإنسانِ بالحياةِ، الذي يتساوى به كلِّ الناسِ، ولم يتفضّل به أحدٌ على آخر، والصراعُ منشؤه عادة الخلافُ حول أساليب العيشِ، لتكونَ النتيجةُ إزهاقَ الأرواحِ والتهجيرِ واللجوءِ والدمارِ.
حلُّ الأزمة السوريّة كان يتطلبُ منذ البدايةِ وضعَ التموضعاتِ السياسيّة الحزبيّة والدينيّة المذهبيّة وكلّ أنواعِ الانتماءاتِ المكتسبةِ، والانطلاقُ من حقِّ الحياةِ، لمنعِ تدحرجِ الأزمةِ إلى الاقتتالِ، وفي السنة الثانية عشرة للحربِ ما زال الحلُّ هو نفسه، لحقنِ ما تبقى من دماءِ تجري في العروقِ، والانتصارُ للإنسانيّة وليس للتموضعاتِ الخلافيّةِ.
كان مطلوباً وضعُ كلّ أشكالِ الأدلجة جانباً، والانطلاقُ من الفطرةِ، وحقِّ كلِّ فردٍ أن يكونَ نفسه في خصوصيته وفرادته، وتأكيد أنّ الوطنَ حياضٌ مشتركٌ، وهو كالسفينة تغرقُ إنّ أصابها الخرقُ في أيّ جانبٍ.
حقّ الحياةِ قانونٌ طبيعيّ، يسبقُ القوانين والدساتير، وينافي الحربَ والاقتتال والحصار والاحتجاز والتسلطَ وقطعَ الطرقِ، والإرادةُ التي جاءت بنا جميعاً إلى حيّز الوجودِ حكيمةٌ، ولا تفاوتَ أو تباينَ فيها، فلا قوميّةَ خطرٌ على قوميّةٍ أخرى، ولا قوميّةَ معصومةٌ عن الخطايا، لتؤدلجَ وجودَها برسالةٍ خالدةٍ وتاريخٍ مجيدٍ، وتبررَ الحاضرَ المنهكَ بالمؤامرةِ ولومِ الآخرين، وأنَّ تقولَ بحقّها بتملكِ ما على الأرضِ وما في باطنها، وأنّ الآخرين مدانون بالانفصالِ بالولادةِ، وعليهم إثبات وطنيتهم على الدوام؛ ذلك لأنّ وهمُ التملك أم البلايا، ولم يأتِ أحدٌ إلى حيّز الوجودِ مصطحباً معه سنداتِ مليكةِ الأرضِ، والآخرون محرومون منها.
القوميّة نتاجُ قانونٍ بيولوجيّ وهي مجردُ انتماءٍ وشجرةُ عائلةٍ، لا تغني عن الإنسانيّةِ، والدينُ عقيدةٌ، والناسِ أحرارٌ فيما يعتقدون فلا قسرَ أو جبرَ، والوطن ليس حزباً أو جمعية أو نادياً للمتوافقين، بل جغرافيا الحياةِ، ولا حياةَ مع الخوفِ وبغير أمنٍ.
عفرين لم تكن تراباً كرديّاً، يقابلُ تراباً عربيّاً، بل كانت مجتمعاً كرديّاً، تلك هي القضيةُ التي لا يتقبلها البعضُ، فالأرضُ مشاعٌ، والإدارةُ الذاتيّة فيها كانت تجربةً وطنيّةً سوريّةً استثنائيّة، فكان أهلُ عفرين أنفسهم، فهل كونُ المرءِ نفسه يجعله خطراً على غيره؟ وعندما يديرُ أبناءُ مجتمعٍ تفاصيلَ حياتهم بأنفسهم فهذا ليس انفصالاً، بل تلك خصوصيّة تنسجمُ مع الفطرةِ، وهل الوحدةُ الوطنيّة تعني أن يديرَ المناطقَ والنواحي ضباطُ الأمنِ، ويقاسمَ رئيسُ المخفرِ أهل عفرين زيتهم وأهل الجزيرةِ قمحهم؟ هو الفرقُ الجوهريّ بين المجتمعيّةِ والدولتيّةِ!
الإدارةُ الذاتيّةُ ليست مشروعَ كيانٍ سياسيّ، بل مشروعَ مجتمعٍ حيويّ، يتحملُ فيه الفردُ مسؤولياته وتُرفع عنه الوصايةُ، ليكونَ صانعَ القرارِ في قريته وحيه وبين أهله، لكنهم بعد احتلال عفرين احتفلوا، وقالوا قضينا على حلم الكرديّ، وقالوا ذلك يوم احتلوا سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض.
كلُّ ما نحتاجه لحلِّ مشكلاتنا المتراكمة، أن نبدأ من حقّ الحياةِ، ولدى الاتفاق على تلك الأبجديةِ يمكنُ إعادةُ بناءِ المؤسساتِ في دولةٍ وطنيّةٍ، ووقفِ كلّ أنواعِ النزيفِ بالدمِ والمالِ والاقتصادِ والعقول.