“أدركتُ من شؤون بلادي وبعض أمور العالم ما يُدركه غلامٌ عند إعلان الحرب العالمية الأولى. وعِشتُ في خِضَمِّ ثورة 1919 طالباً، وراقبتُ في أعقابها بعقل شباب المدارس العُليا، حتى غادَرَت البلاد عام 1925 لأُتابع تعليمي، وغِبتُ عنها خمسَ سنوات عشتُ اثناءَها مع أهل الغرب بعقلية أوروبية، وقلب مصري. وعوَّدتني حياتي العلمية في مصر والخارج ألا أُصدِرَ حُكماً قبل أن أتبيَّن الأمور بكل مُلابساتها. وعرفتُ أن الحقيقة في مسائل الرَّأي بعيدة المنال، على عكس بعض المسائل العلمية التي تقوم على قوانين الطبيعة، كالبديهيات الرياضية، أو المُؤسَّسة على الفحص المباشر وتسجيل المُلاحظات”.
بمثل هذه العبارات البسيطة، والعميقة، تحدَّث عن نفسه ذات يوم وجهٌ من وُجوه الثقافة الكبيرة في مصر… حسين فوزي، الذي وإن كان يبدو اليوم منسيّاً بعض الشيء، فإنه كان في زمنه واحداً من معالم الثقافة في المحروسة التي هَامَ بها طوال حياته، واشتغل من أجل رفعتها الثقافية.
“البرنامج الثاني” في الإذاعة المصرية
كان هيام حسين فوزي الثاني خارج مصر هو موسيقى بيتهوفن التي أفرد لها مئات الصفحات في كتاب ربما يكون الوحيد الذي وضعه مؤلف عربي عن الموسيقي الألماني الكبير، وهي صفحات بناها على نصوص كان قد اعتاد طوال سنوات أن يقرأها على تلك النخبة الرائعة التي كانت تُشكِّل عند بدايات النصف الثاني من القرن العشرين مُستمعي ما يُسمَّى “البرنامج الثاني” في الإذاعة الرسمية المصرية.
في ذلك البرنامج الذي كوَّن نُخبة لا بأس بها من الذوَّاقة المصريين والعرب، تابع حسين فوزي تاريخ كبار الموسيقيين العالميين، إضافةً إلى عدد من الأصناف الفنية والحضارية الأخرى، وفي ظنِّه أن تلك هي الطريقة التي تُمكِّننا من الانفتاح على العالم وعلى تاريخ الفنون. والحقيقة، إن من يتذكَّر تلك البرامج التي كانت تمزج تقديم حياة الموسيقي مع تقديم مقاطع بالغة الدلالة من أعماله، سمفونية كانت أو غير سمفونية، يُدرك “المعركة السيزيفية” التي خاضها حسين فوزي، إلى جانب غيره من كبار النهضويين المصريين أواسط القرن العشرين، في سبيل “تنوير الشعب”. ونقول “سيزيفية” لأننا نعرف أن أولئك التنويريين، وعلى رأسهم أمثال حسين فوزي، كانوا خلال الجهود التي يبذلونها يُخاطرون بوقتهم ويُقامرون بجُهودهم، دون أن يعرفوا أن معركتهم عبثية، وليس لها أي أمل بالوصول إلى غايتها.
والأدهى من هذا أن مُفكِّراً مثل حسين فوزي كان يرى أن المعركة الثقافية التنويرية تقوم على المُزاوجة بين عُنصرين هما نشر التذوق الفني ونشر المعرفة الفنية. ومن هنا نراه في حديثه الذي استغرق حلقات عديدة عن بيتهوفن قدَّم خلالها كل سمفونياته ومعظم أعماله الأخرى، لا يكتفي بتقديم الأعمال، بل يتجاوز هذا إلى تحليلها بعُمق العالم الموسيقي الحقيقي، رابطاً كل عمل بظروفه وظروف حياة المُبدع – الذي “ترجم” اسمه إلى العربية فإذا به يُسمِّيه “أبو الغيط” ما يجعله قريباً ربما للأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية – بشكل يبدو لائقاً بأرقى وسائل الإعلام الثقافية الأوروبية. فماذا عن المستمع المصري الذي كان فوزي يريد أن يتوجَّه إليه؟
بدلاً من الوصول إلى الهدف
يقيناً، إن برامج حسين فوزي في “البرنامج الثاني” قد وصلت الى نُخبة لا يزال كهولها وعجائزها يتذكَّرونه بالخير حتى اليوم، بيد أنها لم تتمكَّن أبداً من تحقيق ذلك الهدف الذي كان ذلك المثقف الكبير يضعه نُصبَ عينيه، بل يعتبره هدفاً أساسيّاً من أهداف حياته وبرنامجَ عمل يوميّاً، كما يمكننا أن نستشفَّ من بعض أجمل صفحات كتابَيه “سندباد مصري” و”سندباد عصري”، كما نستشفُّه من تلك الصفحات التي كتبها عنه ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصرية في واحدة من أزهى الحقب الثقافية في مصر، في مذكراته: وكان الهدف بالطبع تقريب بيتهوفن إلى الفلاح المصري، في وقت كان هذا بالكاد يطرب لأم كلثوم أو محمد عبد الوهاب!
إذاً، كان حسين فوزي، فضلاً عن كونه طبيبَ عيون، واحداً من كبار المثقفين الذين عرفتهم مصر في المرحلة الفاصلة بين عصرها الليبرالي، وبداية سنوات الثورة. كان ينتمي الى نفس الذهنية التي أوجدت جمال حمدان، ولويس عوض، وحسن فتحي، وثروت عكاشة، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، ونجيب محفوظ، أصحاب تلك العقول الحرة والثقافة الشاملة، من الذين خلَّفوا لمصر نهضة ثقافية لا تزال بحاجة لمن يُؤرِّخ لها، وأثبتت على مدى السنين والكتب والمآثر الفنية، أنها واحدة من النهضات الأكثر أصالةً وانفتاحاً، التي عرفتها شعوب مناطقنا هذه.
كان حسين فوزي الذي رحل عن عالمنا في آب 1988 وسط سجال حادٍّ حول اختياراته السياسية، مثقفاً بكل معنى الكلمة، من طينة أولئك الذين اختلط لديهم العلم بالفن، والموسيقى بالعمران، والشعر بأعماق البحار، والسينما بالمسرح. ولعل مأساته الأساسية كمُنت في أنه إنما أراد لاختياراته الفنية (النخبوية في نهاية الأمر) أن تُصبح ذات شعبية في بلده، وأن تعُمَّ، مثله في هذا مثل المعماري الكبير حسن فتحي الذي دافع طوال حياته عن “البناء في سبيل الشعب”، فإذا بدفاعه يقوم ضد اختيارات الشعب نفسه. على هذا النحو كان حسين فوزي يودُّ لو أن كل فلاح مصري تحوَّل إلى مستمع جيد إلى بيتهوفن، أو إلى فاغنر. ولئن كان حسين فوزي قد “تنازل”، في فترات عن علياء اختياراته الأوروبية الكبيرة، فإنه إنما فعل ذلك لـ”يُعيد” اكتشاف كامل الخلعي وداود حسني وصالح عبد الحي، على ضوء ما يشبههم في أوروبا. وهذا ما عمَّق، في الحقيقة، ذلك الشرخ الذي قام على الدوام بين نُخبة معينة في مصر، والجمهور المصري ككل، وجعل أبناء تلك النخب يُبدون وكأنهم “خواجات” أو “مُستشرقون”، وسط عالم كان يؤلمهم “تخلُّفه”.
لعنات التقدُّميين
وُلِدَ حسين فوزي الذي يمُرُّ هذا العام 120 عاماً على ولادته، في 1900 لأبٍ مهندس، ودرس الطب ومارس عمله “طبيبَ عيون”، ثم توجَّه في بعثة إلى فرنسا لدراسة الأحياء المائية وعلوم البحار. ومن فرنسا عاد وقد أخذ عهداً على نفسه أن يُسهم في خلق وعي فني جديد في مصر. وكان وعيه هو قد بدأ منذ اللحظة التي دخل فيها قاعة للسينما في القاهرة في 1918 ليجد خمسين عازفاً مُنهمكين في عزف السمفونية السابعة لبيتهوفن. ومنذ تلك اللحظة، طغى حُبُّه للموسيقى على حُبِّه لأي شيء آخر، على الرغم من مُمارسته الرسم والكتابة.
ترك حسين فوزي كُتُباً قليلةَ العدد، أشهرها على الإطلاق “سندباد مصري”، الذي غاص فيه في تاريخ مصر البعيد، وغرق في شتَّى الفنون والآداب، وهناك من كتبه أيضاً كتاب “سندباد العصري” الذي عبَّر فيه عن نزعة قومية مصرية متطرفة ظلَّت تُرافقه طوال حياته، وجعلته على الدوام هدفاً لهجمات العروبيين وشتَّى أنواع التقدُّميين، وكتب القصَّة والمسرح، وألَّف في الموسيقى، لكنه في جميع أحواله كان يسبح ضد التيار، لكن هذا لم يكُن كل شيء في حياته؛ فهو خلال العهد الثوري الناصري كان من مُؤسِّسي أكاديمية الفنون، ولكن دائماً على الطريقة الأوروبية التي كان من الصعب تماشيها مع الذهنية المحلية. ولعل هذا ما جعل الصدام يقوم بينه وبين ثروت عكاشة (الذي لا يقل عنه عصريةً وتقدُّميةً بالطبع، لكنه كان على الدوام أكثر منه عقلانيةً وواقعيةً). ولقد أدَّى ذلك الصدام إلى ترك حسين فوزي وزارة الثقافة، بعد أن كان وكيلها، وهو أمرٌ أسِفَ له ثروت عكاشة كثيراً، ولا سيما حيث كتب مذكراته الرائعة قبل سنوات، وأفرد فيها حديثاً عن حسين فوزي امتلأ بالإعجاب به، على الرغم من الخلاف السياسي والأيديولوجي الذي قام بين الاثنين.
في سنوات حياته الأخيرة، وضمن إطار منطقه الليبرالي – العصري، وقف حسين فوزي إلى جانب اختيارات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ما جرَّ عليه من جديد نقد وهجمات التقدُّميين، ولكن رحيله في 1988 وضع حدّاً لهذا كله، فبرزت قيمته الثقافية والتجديدية، وصار يُشار إليه دون تردُّد كواحد من الذين أسهموا في إنشاء نهضة فنية حقيقية في مصر.