أحمد بيرهات (كاتب وباحث، وإداري في منتدى حلب الثقافي)_
اللوحة الموجودة في منطقتنا تظهر لنا بعض التفاصيل، لابدّ من رؤيتها، ومن التطرق إليها:
-الهجمات التركية المستمرة، وتحديداً منذ نيسان العام الماضي ٢٠٢١، وبشكلها المكثف في مناطق تواجد المشروع الأوجلاني (المرتكزة على ثلاثة مصطلحات أساسية: مجتمع سياسي، أخلاقي، إيكولوجي، ومستنداً على حقيقة العيش المشترك بين الشعوب، ووفق براديغما، ونظرية الأمة الديمقراطية، ومشروعها على الأرض، الإدارات الذاتية الديمقراطية)، خاصة في مناطق حماية ميديا، وجبال وسهول كردستان، ومناطق شمال وشرق سوريا بتجربتها الرائدة باحتضان الشعوب كلها، ضمن فسيفساء رائعة، وراقية وإدارة رشيدة.
– حالة العزلة المشددة، والتجريد الممنهج في سجن من نوع f في جزيرة إمرالي بحق القائد “أوجلان” ورفاقه المناضلين هناك، هاملي يلدرم، وعمر خيري كونار، وويسي اكتاش.
-الاعتقالات الكثيرة من قبل السلطات التركية، التي تجاوزت ثمانية آلاف معتقل من خيرة النشطاء السياسيين والحقوقيين، والنقابيين المطالبين بالحقوق الديمقراطية للعمال، وللفلاحيين، وللحرفيين، وحقوق المرأة، والمهمشين في المجتمع، ومطالبهم بمحاسبة الفاسدين.
– حالات التعذيب النفسي، والجسدي بحق السجناء في سجون تركيا وكردستان، فقد تم تصنيف سجن آمد من قبل منظمة العفو الدولية ضمن أسوأ عشرة سجون في العالم.
كل هذا يتزامن مع محاولات جرّ أطراف كردية، لمجابهة، ولقتال قوات الدفاع الشعبي HPGفي جنوب كردستان “باشور كردستان” في الآونة الأخيرة، عبر هجوم غاشم من عدة محاور من قبل الاحتلال التركي، والتي بدأ مجدداً في السابع عشر من شهر نيسان ٢٠٢٢، بهدف قطع الطرق أمام تحركات الكريلا، واقتطاع مناطقهم، ومن ثم تنفيذ أجنداتهم المعادية، وقد تم إفشالها عدة مرات؛ نتيجة رد الفعل الشعبي، ومقاومة الكريلا، وحكمة قيادات منظومة المجتمعات الكردستانية KCK، ومبادرات ومواقف بعض الشخصيات، والقوى الوطنية الكردستانية الخيّرة.
كل ما ذكر يصلنا بشكل لا ريب فيه، مدى إصرار أعداء الكرد بتجربة حركة التحرر الكردستانية، (والتي تقاوم، وتقود ببسالة، وبشجاعة، وتسير بالشعوب نحو الحرية المنشودة)، وهذا ما اعترف به رئيس أركان الجيش التركي الأسبق حسين كيفرك أوغلو، منذ أكثر من عشرين عاماً عندما أكد أن: “أوجلان كان يريد سابقاً جزءاً من تركيا (يقصد شمال “باكور” كردستان)، أما الآن فإنه لا يكتفي بالجزء، بل يريد كل تركيا”.
هذا يعني أن الأتراك منتبهون، وقارئون جيدون لفكر، ولفلسفة القائد “أوجلان” ومدركون مدى نجاعة هذه البراديغما، التي تجاوزت الحلول، التي تعتمد وتستند على المفهوم القوموي، وإجراء النقد البناء اللازم، والسير وفق ذلك نحو التحول الذهني الديمقراطي، وتشخيص الظواهر على أسس فلسفية، وعلمية بخاصية أوجلانية.
القائد “أوجلان” بفكره وجدليته الخلاقة، سحب البساط من تحت أقدام هؤلاء السلطويين، الأوليغارشيين، والمحافظين الجدد الحاكمين لتركيا، وعلى شاكلتهم في الشرق الأوسط، وأجنداتهم، وقفلها بالوعي المجتمعي. أعتقد أن البلسم الشافي يكمن في:
-فضح سياسات وأجندات قوى الهيمنة، والحداثة الرأسمالية، وأتباعهم من الطفيليين والرجعيين، ويظهر ذلك بشكلها الأرقى عبر قراءة، واستيعاب مجلدات، وكتب مفكر القرن الواحد والعشرين القائد “أوجلان”، فمن يريد أن يكون رده شافياً، وواضحاً على الهجمات الفاشية الآنفة الذكر، لا بدَّ من:
– إن تعرية الأطراف تخدم أجندات الدول المحتلة لكردستان التاريخية، وتمنع الاستقلالية الذاتية الكردية، بالتوافق مع الحكومات الموجودة في أي جزء منها.
حول أهمية، وضرورة وحدة الصف، والموقف الكردستاني، كان للقائد “أوجلان” رؤى واضحة وصريحة، لا التباس فيها، فقد صرح لمجلة الأوج، العدد ٨-٩ عام ١٩٩٨ ما يلي: “الكرد بحاجة ماسة للمؤتمر الوطني الكردستاني، فهناك ما يزيد على ٣٥ مليون كردي، واختيار- عبر مؤتمر وطني موسع- لمرجعيات تتحدث باسمهم، سيقطع الطريق على من يشعل الاقتتال فيما بينهم، وسيكون هذا المؤتمر المرجعية لحوار، يقوم على أسس الحرية والمساواة مع الشعوب المجاورة أيضاً، وهذا ما سيحقق مصالح الجميع، وسيقطع الطريق مرة ثانية على أن يكون لكل حزب كردستاني دبلوماسيته، وإرادته الخاصة، التي قد تذهب باتجاه التفرقة، والتجزئة، والوقوع في حِبال القوى الرجعية، ولهذا فإن الإرادة الوطنية تحظى بأهمية بالغة، وأن مؤتمراً مثل هذا يعني تكوين إرادة وطنية شاملة”.
فلابدّ للكرد من العودة لرشدهم، ولصوابهم، والتخلي عن التخوين والذهنية القبلية، والعصبية، والإقطاعية والبرجوازية بأشكالها المنفعية، التي لا ترى غير مصلحتها، الفردية الأنانية المحضة، وهذه هي العقبات البنيوية الاجتماعية، والسياسة، التي تعرقل المؤتمر الوطني الكردستاني بشكل ملموس، حتى الآن.
ضرورة الالتفاف حول مشروع جامع، وعقد مؤتمر وطني كردستاني، يرسخ لتلك الوسيلة، والأداة، ليتم عبرها تحديد أولويات، وآليات العمل الوطني، وسبل التواصل، والعلاقات مع دول الجوار، والتعهد بعدم الوقوف في وجه أي طموح، وإدارة كردية، وعدم الانجرار وراء أفخاخ، ومكايد الدول المحتلة لكردستان.
السؤال المطروح هنا، لماذا “لا يستفيد” الكرد من أعدائهم في هذه الحيثية؟ والتي باتت حقيقة: “يتركون المشاكل كلها، فيما بينهم حول مجمل القضايا الخلافية، عندما يتعلق الأمر بحقوق الكرد، وبمطالبهم، ويتحدون في محاربة الكرد، وتطلعاتهم في الحياة الحرة والكريمة”، وطبعاً يرجع السبب الرئيسي لذلك إلى الموقع الجيوسياسي لكردستان بثرواتها، وطبيعتها الخلابة، ووقوعها على الطرق التجارية الدولية، وهذه الأسباب بحد ذاتها تشكل إذا ما نالت كردستان حريتها، كونفدرالية عظيمة للشعوب في المنطقة، وتضعف مصالح القابعين في السلطة بآرائهم واختلافاتهم، والتاريخ حافل بالأمثلة وإليكم بعضها:
-انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري أعوام ١٨٧٩-١٨٨١ في شمال وشرق كردستان “باكور وروجهلات كردستان”، والتي انهارت بسبب التقاء مصالح العثمانيين، وسلالة القاجاريين في إيران، وبعض القضايا المذهبية.
-انتفاضة محمود برزنجي “الحفيد” أعوام ١٩١٩-١٩٢٤في السليمانية، وعموم جنوب كردستان” باشور”، والتي انهارت نتيجة التقاء مصالح الإنكليز، والروس والعثمانيين، وكذلك العقلية الإقطاعية لقادة الانتفاضة، والتي استمرت بشكل متقطع، حتى أعوام الأربعينات من القرن الماضي.
– جمهورية كردستان الحمراء، التي أعلنت أعوام ١٩٢٣-١٩٢٩ في أذربيجان، وعاصمتها لاجين، انهارت نتيجة التقاء مصالح السوفييت (ستالين)، مع الإنكليز، والأتراك، والكره للقوميين الآذريين الشديد للكرد؛ نتيجة الضغوط التركية، وضعف الشعور القومي، وتمسك الكرد هناك بالدين الإسلامي.
-جمهورية كردستان (مهاباد)، والتي أعلنت عام ١٩٤٦، واستمرت أحد عشر شهراً، انهارت نتيجة مصالح السوفييت مع شاه إيران حول النفط، والتفاهمات السوفيتية مع الإنكليز، والشاه، والتي أدت لانسحاب الجيش الأحمر من ولاية أذربيجان (أي الاعتماد على السوفييت) وعدم التنظيم الداخلي، وضعف الوعي القومي.
-ثورة أيلول، واتفاقية الجزائر، والتي أعلنت، وانعقدت عام ١٩٧٥ بين إيران والعراق برعاية دولة الجزائر، تنازل خلالها العراق عن شط العرب لإيران، مقابل إيقاف الأخيرة دعمها لثورة الكرد في جنوب كردستان، وأعلن إنهاء الثورة الكردية، والسبب الرئيسي هو اعتماد الكرد على شاه إيران، والدرس المستخلص هنا هو: “ضرورة عدم الانحياز للدول المحتلة لكردستان، مهما كان”.
-مسألة استفتاء إقليم كردستان تم في ٢٥ أيلول عام ٢٠١٧ في جنوب كردستان، ولم تنجح نتيجة القراءة الخاطئة لقيادة إقليم كردستاني في التوقيت، والوضع الإقليمي، والدولي غير الملائم للاستفتاء، وكذلك اتفاق تركيا وإيران والعراق على إفشالها.
والآن يحاولون ويسعون بشتى الوسائل إفشال تجربة الإدارات الذاتية الديمقراطية، التي أعلنت عام201٤ في مقاطعات الجزيرة وكوباني وعفرين وأعلنت رسمياً لمناطق شمال وشرق سوريا عام 2018 كإحدى إنجازات ثورة روج آفا، التي انطلقت في ١٩تموز عام 2012.
بعد هذا السرد الموجز والمختص، أعتقد: أنه لابدّ للكرد من:
-العمل الدؤوب لدعم أي نشاط، وفعالية، ومشروع يخدم القضية الكردية من قبل القوى، والشخصيات الوطنية، والتي تنادي، وتؤمن بالديمقراطية.
– التركيز على خلق، وتهيئة رأي عام ضاغط كردي، ليتحول إلى لوبي مؤثر.
-التركيز المكثف على الجوانب، والأنشطة الحقوقية والدبلوماسية، وتوسيع العمل على مستوى العلاقات الدولية عبر الاستفادة القصوى من ثورة التقنية، والمعلوماتية الفائقة الوضوح.
– التركيز على المناداة بالحرية والديمقراطية، ودائماً وفق وعي وطني، وجعلها عقيدة راسخة، ودمجها بالمعرفة الكونية والمجتمعية.
-الحدود لا تليق بالشعوب وتحجز حريتها، وقد آن وقت الحقيقة فمن حق الشعوب، أن تعيش مع بعضها بسلام، وتشكل درع الحماية لها؛ كونها تعيش في كنف الطبيعة الأولى، التي أُسِّست، وجعلت المجتمع يحمل صفة الطبيعة الثانية.
أعتقد جازماً: أنه لا فائدة تذكر من استخدام خطابات التخوين، التي باتت عادة بين الأحزاب، والتيارات الكردستانية للآسف، بل على العكس، يزداد الشرخ بين الكرد، ويخلق أجواء تأنيب، بأننا لم نتحول بعد إلى مبادئ شعب، يمكن أن يدير نفسه، لكن من الممكن اتباع الخطوات التالية:
-يجب التركيز على المصلحة المشتركة، وما سوف نجنيه من ثمار وحدة الصف، والتوافق فيما بين الكرد.
-عدم الانسياق لمصائد السيئين من الداخل، ومن الخارج.
-التغيير الذهني، والتحول الديمقراطي، والحقوقي.
-تجاوز شوائب العقليات العفنة، والرثة، هو طريق تحقيق ذلك.
فوحدة الموقف السياسي في ظل الأوضاع، التي تشهدها المنطقة، والعالم حالياً (كإحدى تبِعات، وإرهاصات، ما تم تسميته أوجلانياً في منتصف أعوام الألفين بالحرب العالمية الثالثة، وبشكل لا يشبه الحروب الكلاسيكية)، مطلب فوري، وليكن بريادة كردية، وهذه حتمية تاريخية سوف تتحقق في منطقة الشرق الأوسط.
عودة على بدء: التاريخ يخبرنا كما قرأه، وشخّصه القائد “أوجلان” وعبّر عنه بما يلي: “لقد بات واضحاً، أن حزباً بمفرده لن يكون قادراً على تحمل أعباء القضية الكردية، ولن يستطيع أن يكون قوة الحل الوحيدة، لهذه القضية ونظراً لهذه الحقيقة، فإن البحث عن إرادة وطنية بات ضرورياً، ولا يمكن إنجاز أي شيء بدونه، إن المؤتمر الوطني هو الإطار، الذي نبحث عنه لهذا الخيار، فمثلما هناك تنظيمات كردية كثيرة، هناك مناهج سياسية كثيرة، وهناك إيديولوجيات كثيرة مختلفة أيضاً، نحن لسنا متحزبين، ضيقي الأفق، نحن حركة شعبية في أساسنا، وأساسنا يقوم على الخيار الديمقراطي”.
لم يعترف العالم بالفلسطينيين، وبقضيتهم العادلة، إلا بعد أن اجتمعوا، وأسسوا تنظيماً جامعاً باسم منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٤، وأخذ عضوية الأمم المتحدة عام ١٩٧٢.
وكذلك المؤتمر الوطني الإفريقي، أثناء سياسة التمييز العنصري ضد السود، والجدير بالذكر، ومن باب الاستفادة من الراهن الكردي من تجربة الصراع في جنوب إفريقيا، سوف أذكر مثالاً: “عندما راهن الكثير من أعداء شعب جنوب إفريقيا على اندلاع حرب شرسة، بين قبائل زولو، والمؤتمر الوطني الإفريقي، كان لتدخل وحكمة، ومبادرة القائد، والرئيس نيلسون مانديلا رأي آخر، وذلك عبر دمج هذه القبائل بالمشروع الوطني الديمقراطي، ما أدى لإفشال التوقعات، والرهانات السيئة بخصوص “اقتتال حتمي بين الطرفين”.
إن نضوج ظروف، وأوقات الحلول سوف يختصر الوصول إليها، وسوف تتحقق عبر المرجعيات الوطنية، والكرد غير مستثنين من ذلك، وهم مطالبون بأكثر من ذلك.
فالقائد الميدي دياكو مؤسس مملكة ميديا أعوام ٧٢٧ق.م، عمل على توحيد غالبية القبائل الميدية آنذاك، ووقفوا معاً في وجه المملكة الآشورية، حتى أنه وقع أسيراً، ونُفي إلى حماه.
اللقاءات والحوارات بين الأطراف، والكتل الكردية متوقفة الآن، وهذا لن يخدم الكرد في شيء، بل سوف يخسرون مكتسباتهم الموجودة، والتي تحققت بدماء، وجهود أبنائها البررة، ما لم يتداركوا الأخطار، والكوارث، التي تحيط بهم، فالتاريخ لن يرحم أحد.
الاستناد إلى “خريطة الطريق” التي طرحها القائد “أوجلان” عام ٢٠٠٩، ويمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة بعد الرجوع إليها، وهنا أريد أن أذكّر القُراء الأكارم أن: “أوجلان طالب أثناء الإعداد لـ “خريطة الطريق” بضرورة مشاركة الشخصيات الوطنية، والمثقفين، والقوى الوطنية، والديمقراطية، وحتى أنه ذكر بالاسم “البرزاني والطلباني” مع حفظ الألقاب، ومحبو الكرد كلهم، بأن يبدو آراءهم ورؤيتهم، وطرق معالجتهم للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخاصة حل القضية الكردية في الشرق الأوسط، وتوصّل إلى قناعة: بأنه إذا ما تم حل القضية الكردية، سوف “يُعاد التاريخ لمساره الطبيعي”، “فالكرد تحولوا من لعبة الأمم إلى لاعبين رئيسيين في معادلات المنطقة “لابدَّ أن نتحلى بالحكمة، وبالرؤية الصائبة للأمور، فلا خيار آخر أمامنا، فالوقت لا يسعفنا، وليس لصالحنا”، ووفق ذلك: “لابدّ أن نناضل، ونعمل بوعي وطني خلاق، ونسترد حقوقنا من الظُّلَّام، والغوغائيين، ونعيش بأمان مع الشعوب المتداخلة، والمجاورة وفق المعادلة الوضعية الكونية “الوحدة في الاختلاف”.
فالكرد لا يعادون أي شعب، أو دولة، بل يريدون إنهاء العداوة إلى الأبد، والتوصل إلى اتفاق وحل سلمي، وعادل للقضية الكردية، حيث يشكل الكرد عامل استقرار، وتقوية للعملية الديمقراطية في المنطقة، فقراءتي للأحداث والتطورات، وربطها بالمسار التاريخي للشعوب، تؤكد لي مجدداً أن: “طرق الحل، ومؤشر بُوصلتها يتوجهان نحو إمرالي حيث المدرسة الأوجلانية”.