كل المناكفات والخلافات بين أنقرة وواشنطن لا تُلغي حقيقة أن تركيا تعدُّ أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة، ويمكن وصف العلاقات الأمريكية التركية بأنها دائماً تحمل بعض الخلافات، ولكنها محكومة بواقعية المصالح المشتركة وعقلانية صناع القرار في استمرار المصالح المتعددة. وهذا الوصف يؤكده البعد التاريخي الذي سنعرضه، والذي سيكون المرجعية في تناول الملفات العالقة المعاصرة بين واشنطن وأنقرة وكيف يمكن حل بعضها واستمرار الخلاف في البعض الآخر.
من منظور العلاقات الدولية يكون البعد التاريخي هاماً جداً، لأنه يزودنا بكيفية التعاطي مع المصالح والمتغيرات المتعددة بصور متتالية، ويمكننا أيضاً من تشكيل المقارنة، فالبعد التاريخي يؤكد بأن جوهر العلاقة بين الطرفين “تركيا والولايات المتحدة” يميل إلى التعاون ويتخللهُ بعض المنازعات والصدامات. على سبيل المثال، عندما همشت واشنطن الدور والتنسيق مع أنقرة الحليف الشرقي في الحرب الباردة في تسوية أزمة الصواريخ الكوبية “1962-1963″، أتت رسالة الرئيس الأمريكي “ليندن جونسون” متصادمة مع القومية التركية 1964 بأنه لا يكمن استخدام الأسلحة الأمريكية حسب الاتفاقيات في قضية قبرص، فاستدارت تركيا إلى تحسين علاقاتها الدولية خاصةً مع الاتحاد السوفييتي وتقوية صناعاتها الحربية، واتخاذ موقف في حرب تشرين الأول 1973 في سياق الصراع العربي الإسرائيلي بعدم استخدام القواعد العسكرية الأمريكية ضد الطرف العربي، ثم كسرت محددات دورها بتدخّلها العسكري في أزمة قبرص عام 1974، لترُد واشنطن عليها بحظر المبيعات والمساعدات العسكرية الأمريكية، فإذا بتركيا تضع قيوداً على التعاون الدفاعي مع واشنطن باستثناء الشؤون المتعلقة بالناتو. والبعد التاريخي يزودنا بمسار آخر، فمع الثورة الإيرانية ودخول الاتحاد السوفييتي إلى أفغانستان أعادت واشنطن -التي كانت سبباً رئيسياً في الاضطرابات الداخلية التركية في السبعينيات- علاقاتها بصورة قوية مع تركيا بانقلاب عام 1980 بقيادة الجنرال كنعان إفرين، وحفزت أيضاً على دعم اليقظة الإسلامية بروح القومية التركية لصد الشيوعية، ولكن عاد التوتر في العلاقة بين الطرفين “الأمريكي والتركي” بعد الدور التركي المحوري في تحرير الكويت، حيث برزت القضية الكردية في الشمال العراقي، وحاولت واشنطن تقليل أثر ذلك في العلاقات البينية، وتتويجًا للاتفاق الأمني التركي الإسرائيلي عام 1996 ساهمت في القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في كينيا عام 1999، وعدم تحريك الملف الأرمني “الإبادة الأرمنية” في الكونجرس. وتكررت الخلافات بين الطرفين، فقد بدت تركيا في ريبة كبيرة من سياسات واشنطن في الشرق الأوسط بعد احتلال العراق ومشروع الديمقراطية بالشرق وإحياء القوميات، حيث وقفت بميول محدودة مع محور المقاومة في الشرق الأوسط، وتحركت نحو دعم القضية الفلسطينية وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع العالم العربي، مع مساندة إيران في ملفها النووي، وكونت علاقة اعتماد متبادل مع حكومة هولير، إلى جانب ذلك تنامت العلاقات مع موسكو. ومع مآلات وتحولات الربيع العربي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر ارتباطاً بالدور التركي على طاولة لعبة المصالح المشتركة، وهذه المرة في أزمات وقضايا متعددة ومختلفة، من سوريا، الشؤون العراقية والإيرانية، الملف الكردي، الملف الليبي، والموارد والحدود في البحر المتوسط وبحر إيجه، وقضية تسليح جمهوري قبرص وتحرك تركيا نحو قبرص الشمالية، إلى جانب أهمية البعد الثقافي والتاريخي التركي في منطقة آسيا الوسطى والذي يمكن استغلالهُ ضد تمدد النفوذ الصيني، وغيرها من الملفات مثل الحد من تنامي العلاقة مع روسيا والصين، وتوتر العلاقات التركية مع بعض الدول العربية.
وعلى سياق البعد التاريخي نستطيع تناول الملفات الخلافية وكيف سيتم التعاطي معها، والتي دفعت نحو لقاء وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو ونظيرهِ الأمريكي أنطوني بلينكن في واشنطن، فهذه الملفات تعتبر متداخلة مما يجعل حدوث توافق حول بعضها سهلاً مقابل ملفات تعتبر صعبةً. نجد بأن التقارب التركي مع نظام بشار برعاية موسكو مرتبطاً بمسألة القضية الكردية وحضورها السياسي والعسكري والواقعي ضمن مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية ووضعهما في شمال شرق سوريا، حيث تريد أنقرة تأكيد أمنها القومي ضد تنامي القضية الكردية وهنا تبدو واشنطن غير موافقة على التخلي على مجلس سوريا الديمقراطية وقوات قسد، التي يعود الفضل لها في هزيمة داعش الإرهابية، بل واشنطن تعتبرهما جزءاً من مستقبل سوريا الفدرالي واللامركزي، أما الملف الآخر فهو وارد حدوث توافق فيه، فموافقة واشنطن على البيع المحتمل لطائرات إف-16 المقاتلة المحسنة والمطورة سيعكس النوايا الحسنة في ظل دعم واشنطن للقدرات العسكرية اليونانية في ظل الخلاف مع تركيا حول الحدود والموارد البحرية في البحر المتوسط وبحر إيجة، فتركيا تهدف إلى استمرار تفوقها العسكري على اليونان والذي سينعكس على القدرة التفاوضية في الحدود والموارد البحرية مع قضية قبرص الشمالية. وهناك مسألة تجميد واشنطن مشاركة تركيا في تصنيع “أف-35″، التي تبدو رداً على شراء أنقرة منظومةَ الدفاع الروسية “أس 400″، ومن الملفات أيضًا المترابطة هو رفض أنقرة منح الضوء الأخضر للسويد وفنلندا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وهذا الرفض تربطهُ أنقرة بالحصول على عمق 30 كيلو متر في الشمال السوري “لدواعي أمنية تركيّة” ضد الحراك الكردي. ومن الأمور التي هزت الثقة بين أنقرة وواشنطن مطالبة أنقرة واشنطن بتسليم فتح الله كولن المقيم فيها على تهمة التدبير والمشاركة في محاولة الانقلاب في تركيا 2016.
وتشير السياسة الأمريكية في سوريا والشرق الأوسط بأنها لن تتخلى عن إصرارها في تطبيق القرار 2254 الصادر من مجلس الأمن وقانونيّ قيصر والكبتاجون ضد بشار، فخروج نظام بشار من سوريا يعتبر أمراً وارداً في تلاقي واشنطن وموسكو وأنقرة خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار بأن الرئيس الروسي قد صرّح في جلساتهِ الخاصة مع بعض السياسيين العرب بأن هذا الرجل وغبائهُ هو السبب في التدخل الروسي في سوريا، وهو يشير بأنهُ لم يطبق نصائح موسكو في بداية الثورة، مع إدراك بوتين بأن حليفهُ الإيراني ربما يشهد ثورة شعبية تسقط النظام خاصةً في ظل وجود مؤشرات نحو دعم أمريكي وغربي لحراك الشعب الإيراني ضد نظام الملالي. وعلى الرغم من بقاء واستمرار الدعم الأمريكي لوضع شمال وشرق سوريا والهوية الكردية وما حققتهُ من مكتسبات جغرافية وسياسية وقانونية وشبكة من العلاقات في إطار الديمقراطية اللامركزية، فإن التوجهات الأمريكية والمتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية ستحتاج إلى الدور التركي كنجاح أنقرة في محادثات تمرير حبوب القمح في ظل الحرب الروسية والأوكرانية، كما لا يمكن رسم مستقبل مستقر لسوريا بدون تركيا، ناهيك عن أهمية الوضع الإيراني المتأرجح بين ثورة شعبية وبقاء نظام الملالي، فالدور التركي في الشرق الأوسط أصبح أكثر قوة بعد المصالحة مع الإمارات والسعودية ومصر.
وتتسع العلاقة في أهميتها بين واشنطن وأنقرة نحو آسيا الوسطى ودور تركيا فيها كنموذج لبقاء وجعل المنطقة تتنافر مع تمدد الصين كقوة عظمى اقتصادية في قضايا خلافية حول الإسلام والمسلمين في الصين وتركستان الشرقية- “شينجيانغ Xinjiang”، وأيضاً في استقرار آسيا الوسطى الفناء الخلفي الجغرافي لموسكو تتلاقى المصالح الروسية التركية والتي تتسع في علاقاتها كجعل تركيا محطة لصادرات الغاز الروسي لأوروبا إلى جانب أهمية روسيا كمصدر للسلاح القوي والبديل للغربي في حالات معينة، وهناك أطر متعددة وكثيرة للتعاون التقني وتبادل السلع بين موسكو وأنقرة.
إذن تركيا مستمرة في بقاءها كحلقة تتوسط المصالح بين واشنطن وموسكو مع تحقيق مصالحها الخاصة الاقتصادية والسياسية والأمنية وبروزها كقوة إقليمية ودولية مهمة في السياسة الدولية.