على طريق الغوطة الشرقيّة، وعلى طول الطريق إلى جنوب سورية أيضاً، حيث تنتشر المجموعات المسلّحة، وهي محط الأنظار ومحلّ الاهتمام اليوم. فالاتفاق الأمريكيّ الروسيّ حول منطقة خفض التصعيد في الجنوب، يؤرّق تركيا ويهدّد مخططاتها في سورية التي مزّقتها مصالح القوى العالميّة والإقليميّة، لذلك عملت جاهدةً طيلة الفترة الماضية على ضرب هذا الاتفاق كي تستمرَّ بالاستفادة من التناقضات بين الروس والأمريكان لتحقيق ما عجزت عنه طيلة سنوات من تدخّلها في سورية.
الاتفاق الروسيّ الأمريكيّ يؤرّق تركيا
إنّ اتفاق خفض التصعيد الذي توصّلت إليه روسيا وأمريكا والأردن وإسرائيل لم يدم طويلاً، لأنّ بعض القوى الإقليميّة مثل تركيا سعت لاستغلال التناقضات بين موسكو وواشنطن لتحقيق مصالحها، فأنقرة لا تريد أن يتوصَّل الروس والأمريكان لتفاهم دائم في سورية يهدّد مخططاتها الاحتلاليّة والتوسعيّة ويقضي نهائيّاً على المجموعات المرتزقة التي تتلقى دعمها من الاستخبارات التركيّة.
الأهمية الاستراتيجيّة لجنوب سورية
تتمتَّع محافظتا القنيطرة ودرعا في الجنوب السوريّ بأهمية استراتيجية كبيرة في مجريات أحداث الأزمة السوريّة، فدرعا تعتبر المهد الذي انطلقت منه الثورة السوريّة في آذار 2011م قبل عسكرة الثورة وانحرافها عن مسارها، كما تحتل المحافظتان أهمية استراتيجيّة باعتبارهما مفتاحاً لسلسلة مناطق تمتدّ على طول الجغرافيا السوريّة، فهما نقطة وصل بين مناطق جنوب ووسط سوريّة، فيما الموقع يحظى بأهميّة خاصة إذ هو ملتقى الحدود السوريّة الأردنيّة الفلسطينيّة اللبنانيّة، وعلى حدود الجولان المحتل. كما أنّهما تشكّلان نقطة ربط بين المناطق الجغرافيّة السوريّة المرتبطة بالعاصمة دمشق غرباً والحدود الأردنيّة والفلسطينيّة واللبنانيّة جنوباً، وهذا ما يعكس حجم الأهمية الاستراتيجيّة الكبرى لدرعا والقنيطرة بخارطة المعارك في سورية.
اتفاق خفض التصعيد
بالتزامن مع اتفاق الدول المتدخلة في الشأن السوريّ والتي تطلق على نفسها اسم الضامنة وهي ثلاثيّة أستانه (روسيا، وتركيا وإيران) في العاصمة الكازخية أستانه للحفاظ على مصالحها في سورية، والإعلان في 4 أيار 2017م عن اتفاق خفض التصعيد والذي شمل أربع مناطق في سورية، منها منطقة في الجنوب التي تشمل محافظتي درعا والقنيطرة ومساحتها أكثر من ألفي كم2، حيث تسيطر المجموعات المسلّحة على مساحات شاسعة منها، بدأت في الشهر ذاته مباحثاتٌ بين كلٍّ من روسيا وأمريكا والأردن وذلك بمبادرة أردنيّة، لمناقشة وضع الجنوب السوريّ.
وأفضت هذه المحادثات لاتفاق دعم وقف إطلاق النار وخفض التصعيد الذي بدأ تطبيقه في 7 تموز من العام نفسه، وفي 11 تشرين الثاني 2017م اتفقت المملكة الأردنيّة والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على تأسيس منطقة خفض التصعيد المؤقّتة في جنوب سورية، ووقّع ممثلو الدول الثلاث على مذكرة المبادئ بهذا الشأن في العاصمة عمّان.
وبحسب المتفقين؛ فإنّ الاتفاق يدعم ترتيبات اتخذتها البلدان الثلاثة يوم 7 تموز لدعم اتفاق وقف إطلاق النار على طول خطوط التماس المتفق عليها في جنوب غرب سورية، حيث اُعتبر الاتفاق آنذاك خطوة نحو خفض دائم للتصعيد في جنوب ةوالسماح بوصول المساعدات.
إسرائيل وإبعاد إيران عن الحدود
على الرغم من أنّ الحكومة الإسرائيليّة رحّبت بالاتفاق الأمريكيّ الروسيّ لوقف إطلاق النار في الجنوب السوريّ، إلا أنّها في الوقت نفسه أبدت الامتعاض عبر القنوات الدبلوماسيّة أولاً، ثم ليظهرَ إلى العلن بعد محادثات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، حيث أعلن نتنياهو للصحفيين أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وروسيا لم ترعيا المصالح الإسرائيليّة في الاتفاق. وأنّه ووفقاً لتصريحات نتنياهو فإنَّ نصَّ الاتفاق لم يراعِ مصالح «الدولة اليهوديّة»، إذ مازال الوجود العسكريّ لحزب الله وإيران قريبين من الحدود الإسرائيليّة، كما أنّ مراقبة وقف إطلاق النار يتمُّ عبر الجنود الروس، وإسرائيل تدركُ تماماً التحالف القائم والعلاقات الجيّدة بين حزب الله وإيران في سورية. وفي السياق نفسه؛ تحدّث الخبير الروسيّ قسطنطين دوشينكوف عن خيبة أمل إسرائيل في الاتفاق.
ولتطمين إسرائيل، نشرت وكالة تاس الروسيّة تصريحاً للافروف في مؤتمر صحفيّ بعد الاجتماع مع أعضاء معاهدة الأمن الجماعيّ، قال فيه «إنّنا عملنا كلَّ ما بوسعنا لمراعاة المصالح الإسرائيليّة في الاتفاقية بين روسيا وأمريكا بخصوص منطقة خفض التوتر في الجنوب السوريّ ووقف إطلاق النار فيها».
وركّزت إسرائيل على ضرورة ابتعاد إيران عن الحدود السوريّة مع الأردن وإسرائيل، إذ أنّها تعتبر الوجود الإيرانيّ قرب حدودها من الخطوط الحمراء لأمنها. فالقوات الإيرانيّة كانت تتواجد بالقرب من الحدود السوريّة – الإسرائيليّة، وعلى مسافة لا تتجاوز في بعض المواقع كيلومترين. وهذا الأمر ترفضه إسرائيل بشكل قطعيّ لأنّها تسعى لإنشاء منطقة خالية من المظاهر المسلّحة على عمق 40 كم من حدودها، على غرار منطقة فصل القوات عام 1974م التي فصلت بين سورية والجولان المحتل، وأشرفت عليها قوات اليونيفيل.
ولهذا السبب نفّذت إسرائيل ضربات جويّة بين الحين والآخر ضد الإيرانيين في سورية، وهذا ما يفسّر انسحاب الإيرانيين من الجنوب السوريّ واستبدالهم بقوات سوريّة.
كما تشير بعض المصادر إلى أنّ الأردن أيضاً يرفض أيّ تواجدٍ إيرانيّ على حدوده ومنافذه الحدوديّة، وبخاصة منافذ البادية السوريّة، والمنافذ المحيطة بجمارك درعا، كما أنّها ترفض أيّة تصعيد أو عملياتٍ عسكريّة في تلك المنطقة خشية تدفق المزيد من اللاجئين إلى أراضيها في ظل الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تمرُّ بها البلاد وبخاصة بعد التظاهرات التي خرجت ضد حكومة هاني الملقي وأدّت إلى استقالتها.
تركيا ما بين الترحيب والخشية .. الاتفاق يهدّد مصالحها
بعد فشل مخططات تركيا كافة خلال الأزمة السوريّة وفشل المجموعات المرتزقة في تحقيق ما تطمح إليه، سعت تركيا للاقتراب من موسكو بخاصة فيما يخصُّ الجزء الشمالي من البلاد، وفي الوقت نفسه؛ لم تقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكيّة، إذ أنّها حاولت اللعب على التناقضات الموجودة بين أمريكا وروسيا في بعض الملفات واستغلت ذلك لصالحها، وأكبر مثال على ذلك؛ حصلت أنقرة بالنتيجة على موافقة موسكو وواشنطن على شن عدوان على عفرين واحتلال المنطقة، كما سبق ذلك توافق روسيّ أمريكيّ على احتلال تركيا لمنطقتي جرابلس والباب. وفي ملف الجنوب السوريّ أيضاً نظرت تركيا إيجابيّاً إلى الاتفاق الأمريكيّ الروسيّ بشأن وقف إطلاق النار في الجنوب ورحّبت حكومتها بهذا الاتفاق في البداية، إذ أنّها رأت فيه مدخلاً يسمح لها بإبرام هكذا اتفاقات مع روسيا في الجزء الشماليّ من سورية، بخاصةٍ وأنّ إعلان الجنوب منطقة خفض التصعيد تمّ في اجتماع الدول التي تطلق على نفسها اسم الضامنة «روسيا وتركيا وإيران». ولكن الترحيب التركيّ بهذا الاتفاق سرعان ما تحوّل إلى خشية من أن تتوصل روسيا وأمريكا إلى اتفاق مشابه في الشمال السوريّ وبخاصةٍ في إدلب ومناطق الإدارة الذاتيّة. فالخشية التركيّة نبعت من أنّ هذه الاتفاقات تجري من دون تركيا، وهو ما قد يكون على حساب مصالحها في الأزمة السوريّة بعد سنوات من دعمها لمجموعات المرتزقة، وذلك من خلال فتح الطريق أمام قوات النظام لشنِّ هجمات على تلك المجموعات المدعومة من النظام التركيّ وبخاصة المتواجدة في محافظة إدلب. ورأت تركيا أنَّ الاتفاقَ الأمريكيّ – الروسيّ يؤثّر سلباً على مخططاتها باستمرار عدوانها على الشمال السوريّ وخصوصاً مناطق الإدارة الذاتية، لذا فإنّ أي تحرّكٍ عسكريّ لها في هذه المنطقة سيبدو استهدافاً لاتفاقات وقف إطلاق النار إن حدثت، وبالتالي فإنّ اتفاق كهذا سيمنع تركيا من الهجوم على تلك المناطق.
الموضوع الآخر الذي خشيت منه الإدارة التركيّة هو أنّه في حال نجاح الاتفاق الأمريكيّ الروسيّ، فإنّ ذلك سينعكس سلباً على التقارب التركيّ الروسيّ وسيجعل من اجتماعات أستانه تبدو ثانويّة وغير ذات قيمة أمام الاتفاقات الروسيّة – الأمريكيّة وبالتالي إجبار تركيا على الخروج من الأراضي التي تحتلها في سورية.
لذا نلحظ أنّه من مصلحة تركيا ألا يستمرّ اتفاق خفض التصعيد الذي توصّلت إليه أمريكا وروسيا، لأنّه في حال نجاحه ستندفع موسكو للتعاون أكثر مع واشنطن للبحث عن تسوية للأزمة السوريّة بعيداً عن القوى الإقليميّة في المنطقة، كما أنّ المخطط التركيّ باستدراج موسكو إلى جانبها لتنفيذ مخططاتها وعدوانها على الشمال السوريّ، سيفشل وبالتالي سينعكس ذلك سلباً على التقارب الروسيّ التركيّ ما يؤدّي إلى قطع أيدي تركيا عن سورية.
تحركات دبلوماسيّة مكثّفة والمنطقة نحو الحرب
في سورية المشهد معقّدٌ جداً نتيجة تداخل مصالح القوى العالميّة والإقليميّة والكلّ يراقب بقلقٍ تطوّرات الأوضاع، وأيّ خطوة لا تتفق عليها هذه الأطراف ستؤدّي إلى تفجّر الأوضاع، لذلك أدّت روسيا دور الوساطة بين هذه الأطراف وخاضت محادثاتٍ معقّدةً وشائكةً جداً مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكيّة والقوى الإقليميّة الأخرى المتدخلة في سورية من أجل الوصول إلى صيغة تفاهم حول الجنوب السوريّ. وفي ملف الجنوب السوريّ لا تُؤخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب السوريّ، بل تُؤخذ المصالح الإسرائيليّة أساساً، لذا توافقت الأطراف ذات الشأن «أمريكا، روسيا، إسرائيل والأردن» على أنّ الخيار الأفضل هو انتشار قوات النظام في هذه المنطقة شريطة إبعاد القوات الإيرانيّة.
فإسرائيل تسعى لإنشاء منطقة عازلة في القنيطرة بهدف «توفير حارس على الجانب السوريّ من مرتفعات الجولان». أما الأردن فتريد أن يربح الأسد دون حرب تتسبب بحركة نزوح كبيرة إلى أراضيها، وهذا ما تقدّمه روسيا تماماً عبر ما يسمّى «عمليات المصالحة» التي أطلقتها في المنطقة. أما الجانب الروسيّ، فيسعى لإضفاء الشرعيّة على النظام عبر السيطرة على المدن الرئيسة والمعابر التي يعدّ معبر نصيب مع الأردن أبرزها، والذي سيساعد إعادة فتحه إلى حصول تبادل تجاريّ يفيد الأردن أيضاً في أزمتها الاقتصاديّة.
المصلحة التركية تقتضي عدم استمرار الاتفاق .. وروسيا: النصرة هاجموا قوات النظام
وفي متابع لطبيعة المشهد الميدانيّ، وبغية إحداث تغيّر فيها لصالح أنقرة غير المرتاحة من صيغة التفاهم أو الاتفاق الأمريكيّ الروسيّ ورغبة في إسقاطه، شنّت المجموعات المرتزقة التي تتلقّى دعمها من تركيا هجوماً على قوات النظام لتكون بداية حرب أوسع في المنطقة.
إذ أنّ مركز المصالحة الروسيّ قال في بيان يوم 23 حزيران، إنّ أكثر من ألف مسلح من مرتزقة «جبهة النصرة» هاجموا مواقع قوات النظام في مناطق خفض التصعيد الجنوبيّة، ما أدّى إلى مقتل خمسة عناصر من قوات النظام وإصابة 19 آخرين، لتمنح ذريعة لقوات النظام بشنّ هجوم واسع على المنطقة ويسقط اتفاق خفض التصعيد. وبذلك تقدّمت قوات النظام يوم الجمعة المصادف لـ 22 حزيران ودخلت بلدتي داما والشياح اللتين كانتا تحت سيطرة المجموعات المسلّحة بمنطقة خفض التصعيد الجنوبيّة.
وما تزال قوات النظام مستمرّة بعملياتها العسكريّة بهذه المنطقة والتي بدأت في الـ 19 من حزيران، إذ تستمرّ قوات النظام بقصف ريف درعا الشرقي فيما تشنّ المقاتلات الحربيّة الروسيّة غارات على مواقع المسلحين في الريف الشرقي والشمالي من درعا، موقعةً قتلى في صفوف المدنيين.
والآن يتمّ الحديث عن مفاوضات بين روسيا والمجموعات المسلحة عنوانها الرئيسيّ الاستسلام وتسوية الأوضاع، ومن يرفض ذلك سيتم نقله إلى الشمال السوريّ المحتل من قبل تركيا. وعلى ما يبدو فإنّ هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً للأوضاع في هذه البقعة الجغرافيّة التي ظلت بعيدة عن القصف على مدى عام كامل من استمرار اتفاق خفض التصعيد الروسيّ الأمريكيّ.
إلى أين الوجهة بعد الجنوب؟!
بعد أن سيطرت قوات النظام بالكامل على دمشق وريفها وإنهاء معارك الغوطة الشرقيّة في نيسان الماضي، خرج مسؤولو النظام السوريّ وقالوا إنّ أمامهم وجهتين الجنوب (درعا والقنيطرة) والشمال (إدلب)، وبعد اتفاقات حصلت مع تركيا على إخلاء ريف حمص ومنطقة القلمون، ونقل المرتزقة إلى إدلب، بدأت قوات النظام بنقل تعزيزات عسكريّة كبيرةٍ إلى محافظتي درعا والقنيطرة المجاورة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أين ستتجه قوات النظام بعد السيطرة على الجنوب السوريّ؟ وهل ستكون إدلب هي الوجهة القادمة؟ وهل سيتمّ إخراج تركيا من الأراضي السوريّة كما تمّ إبعاد إيران عن حدود إسرائيل، أم أن هناك تغيّرات أخرى ستحدث فتغيّر مجريات الأحداث في هذا البلد الذي دمّرته حروب المصالح للقوى الإقليميّة والدوليّة؟