سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

جرائم القصف بالسلاح الكيماوي بين الإدانة ولعبة المصالح (3)

رجائي فايد_

من أهوال الجرائم التي جرت في شمال العراق، (باشور كردستان حالياً أو منطقة الحكم الذاتي أيام البعث)، بعض تلك الأهوال عايشتها بنفسي، مثل تعرض محافظ أربيل (إبراهيم زنكنة)، المتجه من مسكنه على طريق كركوك، إلى مبنى المحافظة، إلى محاولة اغتيال أصابته بجروح في يده، وفي التوقيت نفسه في الأسبوع الثاني، جاؤوا بسجناء شباب، وزعموا أنهم الجناة، وأعدموهم في المكان نفسه علناً، وفي الوقت نفسه تولت الجرافات بهدم بيوتهم.
تحدث مذياع الجبل، أن هؤلاء كانوا ضحايا، وليس لهم أي دخل بما حدث، وأن من قام بهذه العملية آخرون، والذين تحدثوا عما حدث من خلال المذياع، والحكايات كثيرة، والتي سمعتها من أصدقاء أثق في صدقهم، وإلى بعض تلك الجرائم والتي ترقى إلى جرائم الإبادة الجماعية الكاملة، والتي تحرمها المواثيق الدولية، لكن لعبة المصالح حينئذ جعلت الآذان تصم عن صراخ المعذبين، والأعين الجبانة هي الأخرى عميت عن الرؤية، ملعونة تلك المصالح، وملعون كل من ينسى أنه إنسان بسببها، وإلى بعض تلك الحكايات وأتمنى أن تكون ذكرى مؤلمة لمن كان في قلبه بقية من شعور.
(الحكاية الأولى): ذكرت في مقدمة كتابي (أكراد نعم وعراقيون أيضاً) حكايتي مع (العم قادر) والذي كان يقطن في المجمع الإسكاني في (قوش تبة بالقرب من أربيل)، لقد تم تهجير سكان هذا المجمع جبراً من الحدود العراقية إلى هذا المجمع، وهو عبارة عن مساكن إسمنتية متلاصقة، بعد أن كانوا يعيشون في بيئة تحمل مزروعاتهم وأشجارهم منذ القدم، هجّروهم قسراً بعيداً عن قبور أسلافهم، وكذلك بعيداً عن ذكرياتهم وطبيعة معيشتهم، التي جبلوا عليها، وحرموهم من مستقبل أحلامهم، وقبل هؤلاء مرغمين بقوة قهر السلطة، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، إذ في أواخر سبعينات القرن الماضي، طوقوا المجمع بالمدرعات، وفتشوا دور المجمع داراً داراً، وألقوا القبض على كل من يتراوح عمره بين الخامسة عشرة، وصولاً إلى السبعين من العمر، وشحنوهم في شاحنات إلى حيث لا يعلم، ومن المصادفات أن أحد الذين كانوا لم يصل بعد إلى الخامسة عشرة من العمر، والذي أجريت حواراً معه، قص عليّ، أن رجلاً ممن تنطبق عليه عمر المطلوبين، أن والده توفي في مرحلة التفتيش، وكان عليه أن يجهزه للدفن، وقال له أحد الأشاوس، عليك أن تأخذ إذناً من قائد هذه الحملة، والذي كان (وطبان الأخ غير شقيق لصدام حسين) فاستثناه من الاعتقال.
من هذا الجزء من الحكاية عرفت أن قائد تلك الجريمة كانت بتعليمات مباشرة من (صدام حسين)، واستكمل ما حدث حيث تمكن هذا الصبي مع بعض من نسوة المجمع، وسافروا إلى بغداد وإلى القصر الجمهوري ونجحن في لقاء (صدام)، يقول الصبي: “كنت واقفاً عند الباب وسمعت صدام يرد على شكواهن: “أنتن نساؤنا الماجدات، سترجعون إلى المجمع لتجدوا المياه والكهرباء، أما رجالكن ولنا شغل معاهم”، وبالفعل عدن وعادت المياه والكهرباء إلى المجمع، أما الرجال فكانت تنتظرهم المقابر الجماعية، عندما قالوا: أن الضحايا كانوا مائتي ألف، رد عليهم ساخراً علي حسن المجيد: “أنتم تبالغون أنهم كانوا مائة ألف فقط”. هذا الطفل وأمثاله ممن لم يتجاوزا ما حدث، هل يستطيع أحد من في قلبه بقية من إنسانية نسيانها؟ ناهيك عن الشعور القومي، والذي كان يجب أن يستمر تنديداً وتلاحماً بما يحدث حالياً، حيث تطال شبيهة بتلك الجرائم وربما ما هو أبشع في شمال سوريا (روج آفا).
لقد كان الصامتون على جرائم الماضي، والذي تعرض إليهم أسلافهم يركضون وراء المصالح الآنية، أما الآن والذي تطورت فيه أسلحة الدمار الشامل، مثل تلك الطائرات المسيرة التي تفتك بالآمنين من خلال الضغط على زر، والقاتل في غرفته المكيفة عن بعد، وغيرها فهم أحوج لتضامن بني قوميتهم، وإلى باقي بعض الحكايات، التي ما زالت تعيش معي في ذاكرتي المنهكة بحكم ظروف أمراض الشيخوخة.