سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ثورة 19 تموز وحقيقة الثورة المجتمعية

فؤاد سعدي –

مفاهيم وتعاريف وماهيات الثورة والمجتمع والحقيقة ملازمة للزمكانية وتجري باستمرارية التاريخ والوجود ونهره الدفاق، ويبدو أن الجذر والمنبع الطبيعي الأُسِّي للتدفق الحر قد جرى بالدياليكتيك الطبيعي الحر صوب الارتقاء والتوسع الأفقي العمودي لمنحنى المجتمع والحقيقة على حد سواء، بفعل الثورة المجتمعية وثورة الحقيقة، واستمر تدفق المجتمع والحقيقة جنبًا إلى جنب إلى حين ظهور السلطة والدولة وطبقاتها وهرمياتها ومدنها (المدنية المركزية).
فقسمت المجتمع وانحرفت الحقيقة عن مسارها تحت ظل الثورة المضادة واستثمار إيديولوجيات الحقيقة، ووضعها تحت مجهر الدولة ورهبانها السلطويين، ورغم أن أغلب الأيديولوجيات، لا سيما العملاقة، قد ولدت من رحم المجتمعات وأنشئت كرد فعل طبيعي حر لكسر قيود العبودية والظلم، إلا أنها وبنسبتها الجمعية الغالبة سرعان ما وقعت في شرك شباك وفخاخ ومكائد السلطة والدولة ومؤامراتها وألاعيبها وانجر الأغلب منها بالدخول إلى شباك الثورة المضادة. وباستحضار تاريخ المدنية المركزية ككل، فإن القاسم المشترك ونقطة الالتقاء والتقاطع الجامعة لها تتلخص بجملة واحدة، وهو الفخ المنصوب أمامها من ألف بائها إلى يائها تكمن في الدولة والسلطة.
بالإسقاط على ثورات الشعوب الشرق أوسطية بالمقاربة والمقارنة فإن هذا لا يسري على ثورة 19 تموز التي ملكت نفسها واعتمدت على ذاتها المجتمعية، فلم تنجر إلى فخ السلطة والدولة وثنائية مفتاحها الترغيبي والترهيبي، الذي واظب على قفل العقول والقلوب المجتمعية وأسرها، ضمن سجنها الواسع سعة حدود الدول والمنقوشة في الذهنية المجتمعية الجمعية بنقش القدسية، بحيث ينجر الجميع بالمصادقة على هذا السجن الواسع فيسجنون ذواتهم وإرادتهم المجتمعية في الفخ التاريخي وبطواعية التقليد الببغائي. دون إدراك لحلقة واحدة من حلقات القيود التاريخية التي قيدت من خلالها المجتمعات وزج بها في السجون الواسعة على مدار وسياق آلاف السنين، اليد الواحدة لأحاديات المدنية المركزية الواصلة لذروتها في الأحاديات الحاضرة المعاشة للدول القومية بحيث تشبهت بالآلهة بل وأنزلتها على الأرض بحيث باتت عبادة أحاديات أصنامها المقدسة (العلم الواحد – الحدود الواحدة – اللغة الواحدة – الثقافة الواحدة – الشعب الواحد …إلخ)، تفوق عبادة الأديان التوحيدية والمقدسات المجتمعية وبفراسخ شاسعة لدرجة وصلت فيها وبنسبة لا يستهان بها إلى إنكار الذات الحقيقية وحقيقة الذات (الذات الإلهية – الذات الكونية – الذات الطبيعية – الذات الإنسانية…إلخ)، بل خاضت الحروب والمعارك الكبيرة ضد ذواتها بحيث تفني آلهتها وكينونتها وطبيعتها وإنسانيتها على مدار ساعة المدنية المركزية وعقاربها المسممة والمسرطنة لكل شيء، وكأنه تاريخ الدم ونهره الدفاق بالدمار والإفناء لدرجة وصلت فيها القضية الطبيعية والمجتمعية وقضية الإنسانية وقضية الحرية وقضية الثورة إلى حافة الانهيار والزوال من صفحات التاريخ.
بالعودة إلى الإسقاط بالمقاربة والمقارنة لثورة 19 تموز المنطلقة من روج آفاي كردستان والمرتكزة على أساس حركة الحرية وقيمها النضالية المقاومة على مدار وسياق عشرات السنين، وأمام هذا الكم والنوع الهائل من التراكم التاريخي المسرود آنفاً بإيجاز جد مختصر للتاريخ المتسرطن للحقيقة والثورة والمجتمع، فإن الجديد المستجد والمتجدد يكمن في الوجه الآخر لعملة ميدالية التاريخ حيث الإصرار على احتضان تاريخ الحقيقة المجتمعية ونهره الدفاق بالحرية وبثورة الروح والجسد الواحد، للوحدة في التنوع للجسد المجتمعي المتمثل بالذات المجتمعية وإرادتها في الإدارة الذاتية الديمقراطية، هذا من جانب الجسد ومن جانب الروح الوحدة في التنوع الروحي المجتمعي والمتمثل بالأمة الديمقراطية وبمعادلة التناغم الحميمي بين مكوناتها الجسدية والروحية المختلفة والمتباينة، والتي ترتقي كومينالياً تشاركياً بالحوار الحر والسياسة الديمقراطية فترتقي بجميع الألوان والأصوات واللغات والثقافات لكافة المكونات، ولتصحح مسار التاريخ والمجتمع وحقائقه الجامعة والحاضنة للجميع كل حسب خصوصية ميراثه وعاداته وتقاليده وأصوله وأعرافه التاريخية. وبتمازج وتزاوج هذه العلاقات والروابط التاريخية تتحقق الوحدة التاريخية لأخوة الشعوب وعيشها المشترك وتعود المياه إلى مجاريها الإلهية والطبيعية والكونية والإنسانية وهذا جوهر الخط والنهج الثالث لثورة 19 تموز الممثلة لربيع الشعوب الذي ننادي به ونناضل من أجله، وقدمنا في سبيل إصرارنا على تحققه وتحقيق حقيقته المجتمعية والارتقاء الدائم لميزانه وبثورية قل نظيرها التاريخي لعاشقي نظرية الحرية والحضارة الديمقراطية وعصرانيتها، ولازلنا نقدم الغالي والنفيس من شهدائنا الأبرار ومن يسير على دربهم درب مشاريع الشهادة لاسيما الشهداء الأحياء الواهبين لأطرافهم وزوايا من أجسادهم وحواسهم بغية الحفاظ على أطراف الإنسانية وزوايا الحرية في كل بيت وعائلة وقرية وبلدة وناحية ومنطقة على طول جغرافيا الحرية والإنسانية.
هذه الثورة بروحها وجسدها المتسع أفقياً وعمودياً في كافة أرجاء المعمورة العالمية والتي دوى صدى صوت انتصاراتها ومكتسباتها في أرجاء المجتمعات الإنسانية جمعاء، فبات الجميع يقفز من فوق البحار والقارات ويكسر حدود الحداثة الرأسمالية وأصنامها القوموية، بحيث باتت الحداثة الرأسمالية التي تبحث عن تمديد تاريخها وتجاوز ديمومة أزماتها وزيادة ربحها الرأسمالي الأعظمي، من خلال مشروعها الشرق أوسطي الكبير بفرض الحرب العالمية الثالثة على شعوبها لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، استمراراً لتاريخ سياسات فرق تسد ولتاريخ مؤامراتها ومعاهداتها لا سيما سايكس بيكو لتنميل وتصغير الشعوب وبالدرجة الأولى ذهنيتها  لتستمر بالاهتزاز والتحرك، لتمتثل للأجندات الغربية للحداثة الرأسمالية.
وفيما يبدو أن استمرار الحرب والهجمات والتهديد والوعيد للحداثة الرأسمالية بشخص الفاشية القوموية لا سيما الأردوغانية تجاه حركة الحرية وانتصارها ومكتسباتها وقيمها المجتمعية المتحققة، لا سيما ثورة روج آفا نابع، من إدراكه لفشله بالاستمرار في تصغير الشعوب وعقولها، وبالتالي تزداد الصورة وضوحاً فعيون الحقيقة ولسانها الواضحة بثورة 19 تموز ثورة الحقيقة المجتمعية ثورة الحرية والإنسانية تؤرقها، أي الحداثة الرأسمالية، وتعكر عليها مضاجعها وبالتالي علينا وعلى الحضارة الديمقراطية العالمية أن يدركوا أكثر من أي وقت مضى بأن ثورة 19 تموز هي ثورة صمام أمان الحرية وتاريخها الناصع المشرق، وألا ينجروا إلى أساليب الحرب الخاصة والتشويه الإعلامي للإعلام العالمي للحداثة الرأسمالية، وأن نعي بأفضل الصور والأشكال ونستنبط الدروس والعبر من التاريخ والمجتمع والحقيقة والمتجسدة حاضراً بثورة 19 تموز، وأنه كلما زادت وتيرة النضال والمقاومة المجتمعية في كافة ساحات الثورة فإن مستقبل الثورة سيحافظ على المكتسبات والانتصارات بالمثل.