لا يختلف أحد سواء أكان سورياً أم إقليمياً أو حتى دوليّاً في أن المفاوضة السورية لم تبدأ، الأزمة السورية تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى، ومن فصل إلى آخر، ويبدو بأن الفصل الأخير ليس بالمتناول؛ بل بالبعيد، ويوجد في نهاية كل فصل المزيد من التعقيد. تركيا محتلة لسوريا حوالي نصف مساحة لبنان، وإيران لن تخرج، وروسيا باقية، أما في شرق الفرات فالحرب على داعش لم تنتهِ بعد، ولا توجد خطة متماسكة للتحالف الدولي حيال الأزمة السورية؛ تقول واشنطن أنها ستبقى في شرق الفرات. لكن؛ كيف ستبقى في حال تم الانتهاء من داعش؟ كيف تبرر وجودها إنْ لم تكن طرفاً أساسياً في إنهاء الاحتلالات التركية والبدء في عملية السلام والإعمار والتغيير الديمقراطي، وأيّهم يكون في الطرف الآخر يحاور النظام. حقاً الأمر يبدو أشبه بمتلازمة البحث عن الحقيقة المتمثلة في أن نهاية كل طريق فاشل تظهر العديد من الطرق الناجحة، ولا نظام قوي في سوريا وإنما معارضة ضعيفة؛ المعارضة التي ظهرت على شكل محاصصة؛ وفق إرادة الدول الإقليمية والعالمية ذات الصلة وأجنداتها؛ دون إرادة تمثيل مطلب التغيير لشعب سوريا.
رؤية في طريق الحل السوري نصيبها الفشل؛ في حال فكّرت جهة سوريّة؛ أيّاً تكن؛ بأن تنسج حلّاً بمعزل عن الإرادة الدولية، والشيء الذي يُحسَب لدي مستورا وفريقه حينما وضعوا السلال السورية الأربعة: الأمن ومكافحة الإرهاب، الانتخابات، الدستور التوافقي، وإعادة الإعمار، أمّا السلة الأولى والأخيرة فيلزمها إرادة دولية وأطراف معافاة اقتصادياً؛ ليست كما وضعها الاقتصادي الصعب أو المنهار في موسكو وطهران وأنقرة، أما السلة الثانية والثالثة فهي متروكة للسوريين لو أرادوا ألا يفرض عليهم من الخارج أيضاً، كنت قد تحدثت في اليوم الثالث والثلاثين من مقاومة عفرين؛ عن مبادرة الملك الكومبودي نوردوم سيهانوك في إنهائه للأزمة الكمبودية؛ لكنها لم تحدث بمعزل عن دعم وتأييد الأمم المتحدة التي تكفلت بعض الدول حينها بملف إعمارها، وتبنّت وثائق التفاوض والدستور وأمور أخرى متعلقة بحلِّ الأزمة الكمبودية.
الألسن تؤكد بأن حل الأزمة السورية لن يكون سوى سياسياً. لكن؛ العقول والأفعال المتناولة للشأن السوري ما تزال تنفعل تحت وشيجة العسكري ومقاربة حسمه للمسألة، وعلى الرغم من هذا التناقض إلا أنه يمكن القول بأن السلال الأربعة التي اتفق عليها وتوافق حولها تعتبر أفضل مقاربات الأزمة، الأزمة السورية التي تحمل طابعاً بنيوياً محضاً ومعرفياً في الإجراء وسياسياً في المتناول والوسائل. وهنا؛ يجب القول؛ بأن ما بعد تحرير عاصمة الدولة الإرهابية داعش الرقة على يد وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم قوات سوريا الديمقراطية وبدعم من التحالف الدولي؛ إلا أنه لم يزل خطر الإرهاب وسلّة مكافحة الإرهاب يجب أن تبقى كسلّة أولى، كما يجب التطرق لها من الباب الذي أدى إليها وجعَلَها في مشهد اللوياثان الاستبدادي. إنه باب النظام الاستبدادي المتعلق بوشائج كبيرة والأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وإضافة إلى أن جبهة النصرة مع من يرتبط بها وترتبط بهم؛ فما تزال تسيطر على مناطق جغرافية في سوريا؛ إدلب وريفها وريف حماه الشمالي وريف اللاذقية الشمال الشرقي، وقد بدأ ظهور داعش في إدلب مؤخراً إلى وجوب تصويب الجهود السورية العالمية لإنهاء الوجود التنظيمي، أولاً لهذه التنظيمات ومناهضتها ثانياً بعلاقة تجفيف مصادرها الفكرية والمالية والمادية؛ التي يعتبر النظام التركي في ذلك أبرز مموليها وداعميها. ويكفي الإشارة هنا إلى وجود جيش الاحتلال التركي جنباً إلى جنب هذه التنظيمات وبالأخص جبهة النصرة، ومن ثم تسليم بعض المناطق له من قبل النصرة والمتاخمة لعفرين المحتلة، كما جرابلس والباب يعتبر دليلاً يضاف إلى عشرات إنْ لم نقل مئات الأدلة الدامغة على تورط النظام التركي في دعمه وصناعته للموت وللإرهاب على حد سواء. وعليه؛ فإن تحالفاً موّسعاً جديداً ضد الإرهاب يكون الخطوة الأهم في التسوية، أو الحل الجذري الشامل السوري، ينجح جنيف السوري وسوتشي سوريا في حال حدوث ذلك، فالقضاء على الإرهاب بالشكل الفعلي يعتبر أبرز الخطوات المنجزة لتحقيق مرحلة الاشتباك السياسي؛ إحدى أشكالها؛ المفاوضات المباشرة حول السلال الثلاث الأخر.
أما سلّة الدستور السوري. الدستور السوري الجديد؛ ليس على طريقة سوتشي في تعديل دستور 2012، تكون خطوة جبّارة في أن يكون بالعقد الاجتماعي السوري، دون أن يفهم في ذلك بأنه اختلاف على المسمى بقدر ما هو إصرار على إنهاء الخلاف، وبأنه فرصة مناسبة ضمن هذه الفوضى منْ أن يتمم العقد بالنحوِ نحواً في استقدام العهد السوري الجديد. والتخلص من التركة المفروضة على السوريين لمئة عام منصرمة، التركة الكريهة: الدستور المفروض والهوية المفروضة ضمن الكيفيات المفروضة، وأن العقد الاجتماعي السوري يكون بمثابة فك الارتباط أو الانسلاخ من الوشائج القومية والدينية. إنها المسألة الأكثر أهمية في تحقيق الانتماء وتحقيق الهوية الديمقراطية، وتلكما أساس جميع الأزمات في الشرق الأوسط القديمة منها والآنية والمستقبلية؛ وبالأخص إذا ما تم جرّنا جراً أو شدنا شداً نحو القديم المستحدث في ذلك، وضمن هذا الفهم من المهم تحديد المواد الأساسية أو المواد فوق الدستورية. وهي:
أولاً: سوريا؛ ليست جزء من محيطها الإقليمي والعالمي، ولشعب سوريا؛ وليس للشعب السوري؛ الحق في تأسيس علاقات مثلى مع شعوب الشرق الأوسط فيما يعزز قيم العقد الاجتماعي السوري، هذا هو الجانب المجتمعي في سوريا كي يؤدي التاريخ فيه دوراً تراكمياً؛ ومن خلاله يصوِّب المستقبل نحو تحقيق الأمن والاستقرار ليس فقط في سوريا إنما في عموم المنطقة، طالما إنه كسوريين متفقين بأن سوريا مهد أساسيٌّ من مِهَدِ الحضارة الديمقراطية والحضارة المدنية العالمية، وأن سوريا جزء من الهلال الخصيب.
ثانياً: تعتبر اللامركزية الديمقراطية نموذج النظام السياسي المعمول به في سوريا، قد يقول قائل بأنه مصطلح غير متعارف عليه في القانون الدولي؛ يمكن القول في ذلك: إن أدبيات خاصة ومصطلحات مخصوصة ظهرت مقتصرة بالأزمة السورية، وطُرِحت أمام شعب سوريا ومن يعنيه حل الأزمة مصطلحات خاصة به. يمكن لهذا المصطلح؛ الذي أقرّه مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية في 7/8 حزيران 2015 أيضاً؛ أن يعني بالحل الذاتي المحلي السوري؛ وفي الوقت نفسه تمهيداً لنفاذ الفوضى السوريّة وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وسوريا الإدارات المتحدة الديمقراطية؛ عنوان هذه اللامركزية الديمقراطية، ومثال الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال سوريا يعتبر صيغة ونموذج متقدم لفهم اللامركزية الديمقراطية؛ طالما كان على أساس الجغرافية وإرادة شعوب شمال سوريا. الجغرافية التي تجمع، وأنه بمثابة وضع اليد على الجرح من بعد إجراء محاكمة براديغما ديمقراطية للرباعية الأشد فتكاً على الجانب المجتمعي في سوريا وكردستان وعموم الشرق الأوسط: القومية، الدين، العلمانية، والجنسية.
ثالثاً: نحو السيادة الوطنية السورية، السيادة التي تنطلق أساساً من ثلاثية الجيش الوطني الواحد ذو القيادة المدنية المتوافق عليها، والاقتصاد المجتمعي السوري الواحد الذي يحقق التنمية المستدامة، والاكتفاء الذاتي في جميع المناطق السورية دون استعلاء أو سياسات إقصائية ومن دون مناطق نامية، وأخيراً السياسة الخارجية المتوحدة؛ التي تُعبّر عن تطلعات جميع مكونات شعب سوريا؛ من دون استعلاء قومي أو ديني أو تمييز جنسي.
رابعاً: كل شيء من أجل الإدارة المدنية في سوريا، وأن شعب سوريا يتألف من شعوب وثقافات على مرِّ التاريخ حتى يومنا هذا، الحقيقة التاريخية في سوريا يستوجب أن تكون مُتَجَسِّدة في الممارسة السياسية الآنية والمستقبلية، وفقاً لهذا المفهوم؛ تبقى النسبية السلبية ضعيفة القيام أمام النسبية الإيجابية النهضوية في معنى ماهية أن سوريا مجتمع متعدد.
الديمقراطية هي الحل
الذي وافق على استبدال اسم الجمهورية السورية؛ لها الشخصية الاعتبارية ما بعد الاستقلال أو لنقل ما بعد انتهاء الانتداب الفرنسي على سوريا في عام 1946؛ إلى مسمى الجمهورية العربية السورية؛ هي الجهة نفسها التي قسمّت الشرق الأوسط إلى هذا الكمّ الهائل من الدول الاستئصالية. وهي الجهة نفسها التي غيّبت الحق الكردي في إقامة كردستان، وهي الجهة نفسها التي تنظر إلى الكرد بأنهم بنادق مصوَّبة إلى ما يسمى بالأمن والاستقرار في (أقطار) (جمهوريات) أخرى؛ كأشكال ظهرت لأول مرة في التاريخين القديم والمعاصر، تحت هذه الأسماء التي تنزف دماً وفكراً واقتصاداً ولأكثر من مئة عام، وفي منطقة لم تشهد بالأمن ولا بالاستقرار طيلة مئات من السنين المسروقة من عمر الحضارة الديمقراطية. وحينما نقول بأن الديمقراطية هي الحل في سوريا، فيعني ما يعنيه بأنها تعني (قبول الآخر كيفما يريد أن يكون ويقبلك معه، قبولك كيفما تريد أن تكون وتقبل الآخر)، ومن ثم كيفما تريدان إدارة أموركما سويّة؛ جوهر الانتماء السوري.
لا شك بأن ديمقراطية أثينا هي التي انتصرت على الهجمات الميدية والبارسية وهجمات البرابرة عليها وعلى مقدونيا الملكية، فأيّة معركة بين العقل والأيادي تكون فيها الغلبة للعقل، لم تَشُذ هذه القاعدة إنها القاعدة التي تؤكدها استثناءات حصلت وطرأت وأَفُلَت. لكن؛ من الخطأ الكبير استجرار القيمة المجتمعية في الشرق الأوسط؛ سوريا جزء منها؛ كمنطقة متخمة بتجارب وتجارب إلى ديمقراطية أثينا، واعتبارها بأنها هي الحل، الشجاعة القصوى تكمن في اتخاذ الموقف الفكري حين الأزمة. وشرقنا الأوسط وسوريا اليوم في أزمة، فمن المهم أن تتخذ القوى الديمقراطية العلمانية الوطنية في سوريا الخطوة الشجاعة وأن يتم الإعلان بأن الدولة القومية، والدولة الدينية، والدولة التي ترتعب من أن تكون المرأة فيها القائدة، والدولة التي تسخر مقدراتها وتستنزفها خدمة للما ورائي؛ هذه جميعاً فشلت. وأنه حان الوقت للقول بأن الديمقراطية هي الحل وأن ديمقراطية القبول أو ديمقراطية الاعتراف بالجميع هي الحل وهي المدخل الصحيح نحو ساحة الحل الوسيعة. وفي سوريا يتم التأكيد في ذلك على الانتماءات الأولية التي لا دخل لنا فيها ولا إرادة في تحديدها، وتغدو هذه الانتماءات وفق حلِّ ديمقراطية القبول؛ أساساً لتحقيق الانتماء الكليّ ما فوق الانتماءات الأوليّة البدائية أو هي في الحقيقة البدائية.
انتهى الإسلام السياسي في موقعة صفيّن، وانتهى عصر القوميات في القرن العشرين؛ فقد عنى سقوط الاتحاد السوفييتي أكثر ما عناه بأن الحرية لا تتم من خلال التحول إلى الدولة القومية الاشتراكية، وبقليل من الشجاعة يمكن الخروج من الأزمة السورية وبأن المسخ المُرَكّبِ القومي والديني قد انتهى أيضاً؛ ولن تجدي فيه نفع النهوض الحاصل من قِبل أنظمة الاستبداد الطارئة الآنية؛ إذْ لا حياة في المسخ.
يقول أوجلان في مثل هذه القضية المعقدة وفي حلولها؛ من مجلد: دفاعاً عن الشعب مئة وخمسون عاماً بالتمام والكمال منذ ثورات عام 1848 وهي تقول: سنستولي على الدولة أولاً، ومن ثم سيأخذ كل حق مستحقه! وكأن طوابق الدولة مليئة بينابيع الحياة التي لا تنضب (نتذكر هنا الجنة)، لتُحوَّل هذه المفاهيم إلى منهاج أمل ووعود. فتؤسَّس الأحزاب على هذه الخلفية، وتخاض الحروب، وإذا ما ربحت فيما بعد، لا يتبقى من الأمر سوى مشاطرتها القيم المنقولة من المجتمع المسمى بإمكانات الدولة، أما فيما يخص الحشود الغفيرة من المجتمع، فلا يتبقى لها شيء، أما إنْ لم تربح، فلتستمر الحرب.
إذاً و هذه الحال ، إنْ كان التاريخ، بمعنى من معانيه، موجوداً للاتعاظ به من الماضي؛ فما علينا سوى صياغة الحل الدائم والراسخ والمبدئي لصالح الشعوب؛ انطلاقاً من حالة الأزمة والفوضى الراهنة المنتصبة أمامنا، ما من واجب أسمى معنى من هذا، وما من مساعٍ أقدس من هذه. إني على قناعة أكيدة بأن النقطة الأولية المتسببة في الخسران هي، عدم العمل أساساً بالسلوك الديمقراطي والمشاع للشعوب، فمهما تُطرَح تحليلات المجتمع، ومهما تؤلَّف الاستراتيجيات والتكتيكات وتوضع العمليات، بل ومهما تُحرَز النجاحات؛ فالنقطة التي نبلغها ستكون مرة ثانية الالتقاء بالنظام بأسوأ الأشكال.
ويؤكد حصاد ثماني سنوات من الأزمة السورية بأن الحل لم يحدث، بل تنتهِ سوريا وتتفكك، لو لم نضع صوب عقلنا وأعيننا بأن في الديمقراطية يكمن الحل، وأن الديمقراطية هي أصل التفاوض؛ حينما نبحث عن الحل، وهي أصل الحروب؛ حينما يتعذر الحل وتستبعد الديمقراطية.