سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ثقافة القوة وقوة الثقافة

بسام سيدو ـ خبر 24 –

من الحق الطبيعي لدولة مثل روسيا تمتلك إرثا ثقافياً وحضاريا أن تعمل جاهدة لتنال مكانتها في مصاف الدول العظمى. ولكن؛ امتلاك مقدرات وإرث حضاري لا يعني بالضرورة تحول دولة ما إلى قوة عظمى، وإنما السياسات المتبعة في مشروع كهذا وأسس وقواعد المشروع ذاته هي التي تحدد مدى النجاح والفشل في مهمة كهذه، الظروف الموضوعية مهما كانت درجة نضوجها بدون توفر الظروف الذاتية تبقى مجرد أحلام وربما تأتي بنتائج عكسية، هذا إن سلمنا بنضوج الظروف الموضوعية في الحالة الروسية، ومع ذلك ليس ثمة عاقل باستطاعته إنكار تأثير (روسيا بوتين) على الساحة الدولية ولكن ماهية هذا التأثير ومستقبله هو محط بحث وتساؤل دائم.
وعندما خسرت ألمانيا الحرب العالمية الثانية، لم تعتبر خسارتها للحرب خسارة للشعب الألماني إنما اعتبرت الخسارة هي خسارة للنازية، واعتبرت مرحلة الحكم النازي درساً تعلمت منه الكثير ودفعت ثمنه الكثير الكثير، ومن ثم نهضت ألمانيا من كبوتها بعد ذلك، وكان أساسها قيم التسامح والحرية والعدالة وهي قيم الثورة الفرنسية المتأصلة في أوروبا. وما كان نجاح ألمانيا في المجال الاقتصادي والسياسي وعودتها القوية إلى المجتمع الدولي إلا نتيجة عودتها إلى تلك القيم الإنسانية التي أخذت من حرية الفكر والرأي الأساس في ذلك التقدم. في حين اعتبرت روسيا النخب السياسية والثقافية خسارة الاتحاد السوفيتي للحرب الباردة خسارة لروسيا وانتقاص من مكانتها الدولية، ومن ثم بعد أن اعتقدت بأنها لملمت جراحها، اختارت التدخل في أزمات الشرق الأوسط، والاعتماد على ما ورثته من أسلحة نووية من الاتحاد السوفياتي السابق طريقاً لعودتها إلى الساحة الدولية كدوكة عظمى.
إن ما تلعبه روسيا من دور في أزمات الشرق الأوسط من تدخل عسكري ومساندة الطغاة والأنظمة الاستبدادية المرفوضة من قِبل شعوبها مثل سوريا الأسد وتركيا أردوغان وملالي إيران لن يضمن لروسيا وجود دائما في المنطقة، ووصول القواعد العسكرية الروسية للمياه الدافئة عبر مساندة الطغاة التي تسحق شعوبها، وتشرد الملايين منهم ستبقى نجاحات محدودة ومرحلية، حيث أن هذه الشعوب لا ترضخ للأبد لحكامها المتواطئون مع روسيا، وهذه الشعوب تعتبر القوات الروسية قوى استعمارية، وربما تكون منطقة الشرق الأوسط مجرد مستنقع وقعت فيه روسيا يصعب النجاة منه، التحالفات الحقيقية هي تلك التحالفات التي تعقد مع حكومات تحترم شعوبها ولا تهينهم، لا مع أنظمة اقل ما يقال عنها أنها استبدادية وديكتاتورية كما في الحالة التركية مثلاً. في حين لم تستوعب النخب السياسية والثقافية الروسية درس الهزيمة كمثيلاتها في ألمانيا واليابان، وهي على ما يبدو مصرّة على اعتماد ثقافة القوة، والتلويح دائماً بمدى قوة أسلحتها على جلب الدمار للعالم والتاريخ ذو قدرة فائقة في تذكير كل من ينسى بأن ثقافة القوة مرحلية ومؤقتة، وقوة الثقافة هي التي تصمد وتبقى، وإن نهوض الأمم لا يكون بالمناطحة والكباش في حلابات الصراعات الدولية، إنما يبدأ من الداخل وإعمار الإنسان الذي يبني البلدان، وكذلك لم تستوعب روسيا أيضاً بأن انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية لم يكن انتصار روسيا على ألمانيا، إنما كان انتصار الشيوعية على النازية وشتان بين الاثنين، وكذلك خسارتها للحرب الباردة كانت هزيمة للشيوعية وليست للشعب الروسي.
ونحن لا ندّعي بأن الحضارة الغربية هي النموذج الأمثل، وإن مواطني هذه الدول يعيشون في جنان تجري من تحتها الأنهار، ولا بأن هذه الدول جمعيات خيرية تنشر المحبة والسلام في العالم ومن أكبر الدلائل على ذلك ما يجري على الأرض السورية. ولكنها؛ بكل ما تحمل من مساوئ، فهي تستخدم قوة الثقافة للحفاظ على بعض القيم. وربما كان على روسيا إن تعي بأن القوة إنما تبدأ من الداخل وليس من الخارج، هذا إن اعتبرنا بأن مساندة الطغاة والسفاحين قوة ممكن الاعتماد عليها والاستفادة منها، ربما كان على روسيا في طريق عودتها إلى حلبات الصراع في العالم أن تجلب معها مشروعاً حضارياً، يضيف لميراث الإنسانية تقدماً ويكون سندا للشعوب المقهورة. لا سيفا مصلتاً على رقابها، فطريق روسيا بوتين إلى مصاف الدول العظمى محاولة لإعادة عقارب الساعة لمرحلة الحرب الباردة. ولكن؛ ليس بمشروع حضاري وإنما بقوة صواريخها التدميرية، وستبقى روسيا غوركي وتشيخوف ودوستويفسكي أقوى وأكثر حضارة من روسيا كلاشينكوف وإس 400 وإس 500، ربما يعي الشعب الروسي يوماً ما هذه الحقيقة. ولكن؛ نرجو ونتمنى ألا يكون هذا الوقت متأخراً.