سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تفجيرات طائفية والحل خيمة عزاء وطنية

رامان آزاد –
رسائلُ الدم يومَ الأربعاء 25/7/2018م كانت في غايةِ الوضوح، ومفادها أنّ الإرهاب ما زال موجوداً ويمكنه أن يطالَ أبعدَ النقاط في سوريا.الحلقةُ المفقودةُ في رسائلِ الإرهابِ هي الخاتمُ الذي تُمهرُ به، فالكلّ يعرفُ ساعيَ البريدِ وموصِل الرسائل، ولكننا لا نعرفُ تماماً الجهةَ التي تُصادقُ على الرسالة، والمفارقة في تعدّدِ القراءاتِ لهذه الرسائل، فمع دوّي التفجيراتِ وارتفاعِ سُحُب الدمار أُضيف يومٌ آخر دامٍ في مفكرةِ الأزمةِ السوريّة. والخبرُ تفجيراتٌ في السويداء جنوباً وتفجيرٌ بمدينة الشدادي شمال شرق البلاد والضحايا سوريون.
قراءاتٌ مشوّهة للحدث
يتحدثون عن نهايةٍ وشيكةٍ للأزمة والقضاء على الإرهاب بالتوازي مع دعواتٍ للحوار هنا وهناك، وقمم من كلّ الأحجام كبيرة وصغيرة ومتوسطة، وكلامٌ عن سوريا ما بعد الأزمة وإعادة الإعمار، فيما رسائلُ الإرهابٍ ليس لها إلا معنىً واحدٌ أنّ الأزمة لمّا تنتهِ بعد، وأنّ الحديث عن الحوار والحلّ السلميّ مبكرٌ.
رسائلُ الأمس كانت لكلِّ السوريين التوّاقين لحلّ الأزمة في المخيماتِ وفي عراء النزوح وذلّ صحارى اللجوء وخيمِ الحدودِ، وكانت موجّهة إلى مراكز القرار الدوليّ بأنّها غير معنية بكلّ القرارات والاتفاقات وتقول لهم: القراراتُ والمساوماتُ شأنكم، وأما نحن فسنكتبُ الرسائلَ ونبعثها في صناديقَ بريدٍ محليّة في الأسواقِ والحاراتِ وبين الناس، ولكنّها ستصلُ حتماً إلى حيثُ نريد.
بُعيدَ حوادثِ تفجيرات الأربعاء وتطايُر أشلاء مواطنين من مختلف الأعمار ومشهدِ الأوصال المقطّعة والحرائق، انطلقت المنابر وفُتحت شهية الحناجر، وتدفقت آلافُ التحليلاتِ والتأويلاتِ وكلٌّ يفسّرُ الرسالةَ حسبَ هواه وبما يتوافقُ مع تموضعِه السياسيّ والدينيّ، ولعلَ القاتلَ الحقيقيّ الذي نفّذ الجريمة بالتحكّم عن بُعد أو كتب رسالةَ الدم كان أحدَ المعزّين فاستنكر بأشدِّ العبارات في كلمات التأبين والعزاء، وذرف دموع التماسيح، لأنّ القتلَ والسيرَ بالجنائزِ أمرٌ واردٌ كثيراً في بلدِ الحربِ على الهويةِ والمذهب، وقد يُقتلُ المرء فيه لمجرّدِ الاسم أو الشكل أو تاريخ الميلاد، أو الوجود في اللحظة الخطأ بالمكان الخطأ. ومن ذا الذي سيُحاكمُ القدرَ، فلا زالت كلُّ ملفاتِ القتل تُطوى في عُجالةٍ مع مراسمِ الدفن وقبل أن يجفَّ الدمُ، هذا إن كان هناك سبيلٌ للدفن بما يليقُ بالكرامةِ الإنسانيّة. البعضُ يأخذنا بعيداً إلى حساسيّة التوقيت والظروف التي تسود المنطقة، ولعل ذلك منتهى التشويش، وكأنّه يريدنا أن نبرِّئ المجرم ونبرّر الجريمة بحجّةِ الظروف، ولكن أليست الحربُ نفسُها ظروفٌ مفتعلةٌ وصناعةٌ سياسيّةٌ؟ فيما جهودُ صناعة الحلِّ قاصرة جداً. يتحدثون عن القتلة ومن أين جاؤوا وعن موقع الجريمة، ويتناسون أنّ الضحايا قضت في السوقِ، أو مكان العمل أو البيت، وليس في الجبهات، والقضيةُ أنّ الإرهابَ يخاطبُ الكبارَ ويقولُ سأقتلُ الصغار حيثما كانوا، ولذلك لم يكن التفجيرُ في مؤسسةٍ أمنيّةٍ مهمةٍ أو وزارةٍ فكلُّ المراكز المهمة محاطةٌ بأسوارِ الحماية، فيما الصغارُ في الأسواقِ يسعون لمجرّد الحياة، ومازالت رحى الحربِ تدورُ وتطحنُ الناس في كلّ مكانٍ. البعضُ ربط التفجيراتِ بقربِ مواقعها من قاعدةِ التنف وأنّها منطلقُ مرتزقة داعش، وأنّ الجناةَ مرّوا من تحتِ أنوفِ الكثيرين، ولو شاؤوا لأوقفوهم ومنعوا وقوعَ المذبحة، وآخر ربطها بفشل زيارة وزير الخارجيّة ورئيس الأركان الروسّيين إلى تل أبيب، وتأجيل القمة القادمة بين بوتين وترامب من خريف هذا العام إلى الخريف القادم، وبهذا يُراد تبديدُ رصيدِ التفاؤل من قمة هلسنكي وبعض التوافقاتِ لحلحلةِ الأزمة السوريّة. الأصواتُ التي ارتفعت تريدُ الذهابَ بأبناءِ السويداء نحو صيغِ استنفارٍ طائفيّةٍ، وطرحِ قراءةٍ مجتزأة مذهبيّةٍ للمجزرة، أو الاستغراق في الهوية الطائفيّة لمن يقف وراءها، لأنّها بشكلٍ غير مباشر تحرّض روح الشماتة والتشفّي لدى البعض، والكلام نفسه ينطبقُ على تفجير الشداديّ ولكن ذلك مضيعةٌ للوقت ومُلحَقٌ للجريمة نفسها واغتيالٌ للعقول. ففي شمال غرب سوريا مازال جزءٌ من الوطن السوريّ يُستباح ليل نهار، عفرين التي يحتلها الإرهاب التركيّ ومعه المرتزقة، حيث يُختطف الرجال والنساء ويُعتقلون ويُقتل حتى المسنون والعجائز وتُحرقُ الأشجار ويُعتدى على الطبيعة، والحجّة التي تُبرّرُ الجريمةَ، تمّ ابتداعُها، ثم حشرُها بالتلقين في عقولٍ صغيرةٍ انغلقت على السرقةِ والجريمة فتحوّلت إلى مجرّد أدوات منفّذة.
الإرهاب فكرٌ واحدٌ تعدّدت أشكاله
القصةُ بكلّ وضوح أنّ وطناً يسُتباحُ في كلّ أجزاء جغرافيته، ولأنّ سوريا بلد التنوع والتعدُّد فإنّ لكلّ جغرافيا خصوصيتَها، من غير انفصالٍ عن الوطن، ولعل البعضَ لم يتسنَّ له أن يفهمَ أنّ عدوَ سوريا هو عدوٌ لكلّ السوريين، وأنّ سلامة أيّ مُكوِّن فيها مرتبطٌ بسلامةِ سائر المكوّنات الأخرى.
ارتفاعُ الأصواتِ التي تدّعي الحبَّ والحرصَ على أهلِ السويداء وعفرين تريدُ تجريدَهم من هويتهم الوطنيّة، وحشرهم في هويةٍ مذهبيّةٍ أو حزبيّة لتبرير الجريمة. والصحيحُ أنّ الإرهابَ واحدٌ أيّاً كان توصيفه الدينيّ أو السياسيّ، وسواءٌ كان دولةً أو جماعات وأما خطابُ التباكي المذهبيّ والطائفيّ والعرقيّ فيتوافقُ مع الاستهداف المذهبيّ والطائفيّ والتقسيميّ. وقد كان المخططُ منذ بداية الأزمة أن يُكرَّسَ الشعورُ بأنّ أبناءَ طائفةٍ أو مذهبٍ معيّنٍ مستهدفون وفي خطر، ولا حلّ أمامهم إلا الرحيل والهجرة أو الانغلاق في الحصار الكامل، وبذلك خُلقت شروطُ التغيير الديمغرافيّ بتحريضِ عواملِ الخوفِ والقلق والتردُّد.
فلتكن خيمة العزاء السوريّة واحدة
في مؤتمر مسد بالطبقة تمّ تجديدُ الخطابِ الوطنيّ والدعوة إلى الحوار من غير شروط مسبقة إلا الوطنيّة، فهي بداية الطريق لحلِّ الأزمة السوريّة، ولتضعَ كلّ السوريين أمام مسؤوليّة الحلّ لأنّه مستقبلهم، فمن غير المقبولِ وصايةُ أحدٍ على مستقبل آخر، فيما جاء التفجيرُ محاولةً لإعاقةِ الحلّ واغتيالِ الأمل بمدِّ طوقِ النجاة للمجاميع الإرهابيّة والتلاعب بالتوازنات التي تغيّرت بالميدان بعد الإنجازات الكبيرة لقسد وفصلِ الميدان السوريّ عن العراقيّ ومحاصرةِ الإرهاب في جيوبٍ محدودة، إذ يدرك مهندسو الإرهاب أنّ التلاعب بأمن أيّة منطقة سوريّة يعني اضطرابَه بمنطقة أخرى، وصولاً لخلق واقع سياسيّ جديد بإضافة مزيدٍ من عوامل الإرباك على مسارات الحوار الوطنيّ المحتملة، واستعادة الرصيد الذي حصّله على حسابِ دماء السوريين واستثماره في تعديل شروط التفاوض، قبل انتهاء المعارك على الإرهاب في الجغرافيا الوطنيّة، ونضجِ ظروف الحوار الوطنيّ.
دخلتِ الأزمة السوريّة مرحلة جديدة والمطلوب فيها القيام بفرزٍ كاملٍ وفق معيار الوطنيّة، وأيّ صيغة للحلّ يجب أن تخضع لهذا المعيار، وكلّ ما عداه غير مقبول لأنّه لن يستجيب لتطلعات السوريين، ومن البديهيّ بعد سنوات الحرب الطويلة التي قطّعت أوصال البلاد وفرّقت الناس أن تكون السيادة الوطنيّة ووحدة الأراضي السوريّة والتعدديّة الديمقراطيّة والإقرار بحقوق المكوّنات الوطنيّة بصرف النظر عن كتلتها العدديّة في مقدم كلّ الأولويات وأساس الحلّ السياسيّ. وعلى هذا الأساس فإنّ محاربة الإرهاب بكلّ أشكاله وتحرير الأرض من كلِّ أشكال الاحتلال ضرورة وطنيّة ويجب أن محل توافق السوريين.
لا انتصار أو حلّ إلا للخيار الوطنيّ
هذه الأولويات والتوافق على آليات العمل الوطنيّ اعتباراً من التأطير القانونيّ لها بدستورٍ متوافقٍ عليه، هو الحلُّ في مستوى النظرية، وأما مستوى الأداء العمليّ فيبدأ من مواجهة الإرهاب وتوحيد جبهات العمل لإعادة الإعمار وترميم مؤسسات الدولة، وكلّ هذا يتطلب حواراً وطنيّاً شفافاً وواضحاً لحلّ القضايا الوطنيّة ومن جملتها القضية الكرديّة ضمن إطارها الوطنيّ السوريّ، بعيداً عن أجندات أنقرة واتهاماتها العدوانيّة ولإنهاء تدخلها في الأزمة السوريّة إن مباشرة أو عبر المرتزقة. وإذ لا يمكن لأحد أن ينكر حاجة السوريين للتغيير في كثير من تفاصيل حياتهم، والخروج من عباءة الوصاية وتوسيع أطر الحريات العامة، بعد عقود طويلة من اللون الواحد والخطاب نفسه، والوصول إلى مرحلة استشرى فيها وباء الفساد في مفاصل الدولة ونخرها، فأضحت تلكم المؤسسات عبئاً على المواطن بدل أن تكون في خدمته، ولذلك مشروع الإصلاح الوطنيّ لا يتصل بالأزمة وتداعياتها أو يستند لقراءة ارتجاليّة للواقع، بل هو حلّ لإشكاليات متراكمة عبر عقود.
وعلى هذا النحو يمكنُ النظرُ بإيجابيّة للقاء ممثلي مجلس سوريا الديمقراطيّة في دمشق مع الحكومة السوريّة لمناقشة قضايا الأمن والمسائل الإداريّة، وسببُ الإيجابيّة أنّ اللقاء يتمُّ على أرض سوريّة وبين سوريين أيّاً كان مستوى الاختلاف بينهم، بعد عقم كلّ الاجتماعات في جنيف وأستانه وحتى سوتشي، وسيشهد التاريخ في قادم الأيام أنّ الحلّ كان سوريّ الصنع ولهذا كان طبيعيّاً أن تُعلق الآمال على اجتماع رميلان والطبقة وأيّ مدينة سوريّة ومنوطاً بإرادة السوريّين، ولهذا كانت الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في أحد أهم معانيها التزاماً بالمنهج الوطنيّ ودعوة غير مشروطة للحوار تجاهلها الآخرون، فطال أمد الأزمة، وسيشهد التاريخ أيضاً على أنّ البعض توهم أنّ ثمّة حلاً قد يأتي من الخارج، استيراداً أو استنساخاً أو إملاءً فرهن ارادته وأصبح أداة طيعة في تنفيذ أجندات خارجيّة، وعطّلوا الحوار الوطنيّ والحلّ السياسيّ خدمةً لأعداء الوطن وكان عوناً للإرهاب في الداخل. والحديث عن الوحدة الوطنيّة يعني بالتأكيد وجود تعدّدية بالرؤى توحّدت تحت سقف الوطن فأغنته، ولا سبيل لتفهم الأفكار المختلفة إلا بعرض على طاولة حوارٍ وطنيّة.
الأزمة السوريّة أمام مفترقٍ مهم جداً بعد طريقٍ طويل رُوّيت جنباتُه بدماءِ السوريين، والاحتمالاتُ ما زالت مفتوحةً على خياراتٍ متناقضةٍ، وأما رسائلُ الإرهاب الأخيرة وأسلوبُ الانتحار فهو تعبير عن يأسٍ وانسداد الآفاق عليهم، واختلافُ السوريين بوابةٌ تفتحُ الطريقَ مُجدَّداً أمام الإرهاب. فيما الأمانُ بيئة الحياة وكلُّ السوريين معنيون به من غير تمييز، ويجب أن يكون محلّ التوافق. فقد آن الأوان لفهم الدرس السوريّ، ولو أنّ كلّ استهداف إرهابيّ مسلّح بأيّ منطقة سوريّة أودى بأبرياء، نهض له السوريون كلهم وتقبَّلوا العزاء فيه من موقع الأسرة الوطنيّة الواحدة لكانوا وضعوا حدّاً للجرائم، وفي الحدِّ الأدنى خفّفوا ألم المصاب وقصّروا عمر الأزمة. ولذلك فالمطلوب من السوريين أن يضغطوا على جراحهم ويصبروا ويصابروا، وإذا كانت الجريمة مذهبيّة في تنفيذها فلتكن خيمةُ العزاءِ السوريّة واحدة، وذلك بانطلاق الحوار الوطنيّ لإيجاد حلٍّ للأزمة بالتوافق، إذ لا شيءَ يضمّدُ جراحَ السوريين إلا تعزيزُ الشعورِ الوطنيّ والعملُ الوطنيّ.