يُعدُّ بشار الأسد من أكثر الرؤساء في العالم العربي إصداراً لمراسيم العفو العام، ففي المدة بين الأعوام 2011 و2023، أصدر أكثر من عشرين “مرسوماً للعفو”، آخرها الخميس المنصرم 16/11/2023، والتي منح في معظمها العفو عن كامل أو نصف أو ربع العقوبة لمختلف الجرائم والجنح الجنائية بشكلٍ رئيس، المرتكبة قبل 16 تشرين الثاني مع استثناءات تشمل الجرائم التي تسببت في مقتل أشخاص وتهريب أسلحة.
وتزامن المرسوم مع صدور حكم محكمة العدل الدولية بضرورة أن تتحرك سوريا «فوراً» ضد ممارسات التعذيب والتعامل مع السجناء بوحشية، وألزمها بضمان عدم إتلاف أي أدلة على التعذيب. وكذلك مع إصدار فرنسا مذكرات توقيف دولية بحق بشار الأسد وشقيقه وعميدين في الجيش السوري بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر هجمات كيميائية وقعت صيف 2013 قرب دمشق.
وبالعودة إلى المرسوم التشريعي الذي صدر بالرقم (36) لعام 2023، الذي يتضمن تخفيف بعض الأحكام؛ فقد نصّ المرسوم الجديد على تخفيف عقوبة المحكوم عليهم بالإعدام إلى السجن المؤبد، في حين ستخفف عقوبة المحكوم عليهم بالسجن المؤبد إلى السجن لمدة 20 عاماً. وهذه المراسيم لم تكن يوماً بمثابة مبادرة سلام وصفح عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، وإنما شملت في غالب الأحيان فئات محددة من المُدانين بجنح أو جرائم مثل مهرّبي المخدرات والقتلة أو المتهربين من التجنيد.
وحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” التي اعتمدت بشكلٍ رئيسٍ، على أرشيف المعتقلين والمختفين قسرياً وضحايا التعذيب لديها، الناتج عن حالات المراقبة والتوثيق اليومية المستمرة منذ عام 2011 حتى الآن، لحوادث الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، فإنه ما زال لدى النظام السوري قرابة 135 ألف معتقلاً ومختفياً قسرياً. عِلماً أن النظام لم يُصدر أي إحصائيات أو قوائم رسمية بأسماء الأشخاص الذين أفرج عنهم، ولا عدد وأسماء المحتجزين لديه.
وعدّ المحامي ميشال شماس، عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين وعضو المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أن أهم نقطة وردت في المرسوم أنه استثنى المتهمين بقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 (صدر عقب الاحتجاجات الشعبية).
ولفت إلى أن معظم، إن لم يكن جميع المعتقلين على خلفية معارضة النظام السوري، توجّهت لهم تُهم الإرهاب؛ كي لا يطالهم أي مرسوم عفو.
ومعروف أن جميع المراسيم التي صدرت، كانت عن رئيس الجمهورية الذي يرأس السلطة التنفيذية، وذلك من أجل الظهور بمظهر القوي والمتحكم برقاب الشعب السوري الذي بإمكانه وحده أن يعفو عمَّن يريد، ومتى يريد، وكيفما يريد. وأيضاً لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي من خلال إظهار جانب إنساني، لا سيما أنه أصدر قبل فترة قصيرة قانوناً يقضي بـ “تجريم التعذيب”، وإيقاف العمل بمحاكم الميدان العسكرية، ما يمكّنه من فتح مجال أمام تطبيع العلاقات الدبلوماسية معه والخروج من العزلة الدبلوماسية والاقتصادية، خاصةً مع انشغال روسيا – حليفته الأقوى – في حربها على أوكرانيا. وانشغال حليفيه الآخرين (إيران وحزب الله) في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة.
كما يهدف إلى إيهام الدول المستضيفة للاجئين السوريين أن سوريا بلد آمن بالفعل، ولا خوف على المعارضين المهاجرين من العودة إلى منازلهم وأراضيهم، حيث يوجد نظام متسامح، ويستند للقانون في سياساته وأحكامه.
والجدير ذكره أن مجلس الشعب – وهو الجهة التشريعية المخولة بدراسة وإقرار مراسيم العفو العامة – لم يصدر عنه أي قانون عفو مطلقاً، وهذا أحد مظاهر تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية.
هل يمكن أن يتفاءل الشعب السوري بإصدار مثل هذه المراسيم؟
الحقيقة أن النظام السوري لم يُقدِم على أي تغيير جدّي يُذكر، فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، فالصلاحيات اللا محدودة الممنوحة لأجهزة النظام الأمنية تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على القضاء التابع للنظام، تطبيق هذا المرسوم على عشرات آلاف المعتقلين/ات والمختفين قسرياً الموجودين في سجون الأجهزة الأمنية (مثل جهاز المخابرات العسكرية، والأمن العسكري، وإدارة المخابرات العامة، وأمن الدولة، وجهاز المخابرات الجوية، وشعبة الأمن السياسي). كونها محصنة من الملاحقة القضائية ولا سلطان لأي جهاز قضائي عليها.
أخيراً، إذا كانت نية النظام السوري حسنة لتطبيق المرسوم، فيجب تشميل المعتقلين والمختفين قسرياً به؛ لأن اعتقالهم كان بناءً على آرائهم السياسية المناهضة للنظام، أو لأنهم من المناطق المناوئة له، وأحياناً أخرى كانت الغاية من الاعتقال هي فقط الحصول على إتاوات من أقاربهم مقابل إطلاق سراحهم، أو حتى مقابل معرفة مصائرهم، ناهيك عن أن أغلب المتهمين بارتكاب أعمال إرهابية، كانت تلك الأعمال عبارة عن عمليات إغاثة أو إسعافات طبية أو كتابة بوست أو مقال رأي يؤيد الاحتجاجات ضد النظام.
ومن تجربة السوريين ومعايشتهم لهذا النظام الذي يمتد لعقود خلت، بمواصفاته الاستبدادية السابقة والحالية، بات من المؤكد أن لا أمل يُرتجى منه إطلاقاً وعلى الصعد كافة. ولا مناص لتحقيق ما يصبو إليه الشعب السوري إلا بتغيير هذا النظام تغييراً جذرياً شاملاً وعميقاً يشمل البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، والمدخل إلى ذلك التغيير يتم حصراً عبر تطبيق القرار الدولي (2254) الذي طال انتظار وصوله إلى حيّز التنفيذ.