لا زالت المناطق المحتلة تتقلب على صفيح ساخن وسط حالة من الغليان الشعبي يقابلها قمع ممنهج من المجموعات المرتزقة التابعة لدولة الاحتلال التركي في المنطقة، بينما يستمر مسار التطبيع على قدمٍ وساق بين الأخيرة وحكومة دمشق، والمفاوضات كما يؤكد متابعون للواقع السياسي أنها تجري على حساب معاناة ودماء السوريين وإمكانية أن يحصل كلا الطرفين على نتائج إيجابية تصب في صالحهما وصالح القوى الدولية والإقليمية الداعمة لهذا المسار على غرار العراق وروسيا، الذين يبحثون عن كسب فاتورة هذا التطبيع، الذي يعيش الآن مرحلة المساومة، حيث طرحت حكومة دمشق خمسة مطالب يتعين على دولة الاحتلال تلبيتها من أجل إعادة فتح قنوات الاتصال بين الجانبين، تتلخص هذه المطالب في إعادة محافظة إدلب إلى إدارة دمشق، ونقل جمارك معبر كسب الحدودي، مع معبر باب الهوى إلى سيطرته، وترك السيطرة الكاملة على الممر التجاري بين معبر «باب الهوى» وصولاً إلى دمشق، بالإضافة إلى الطريق التجاري الواصل بين شمال وشرق سوريا ، وطريق حلب – اللاذقية الدولي الـ m4 لحكومة دمشق، وعدم دعم تركيا العقوبات الأوروبية والأميركية ضد رجال الأعمال والشركات الداعمة لحكومة دمشق.
التطبيع وانعكاساته على واقع السوريين
ويعيش في شمال غرب سوريا المحتل ما يزيد عن أربعة ملايين نسمة تم الزج بهم في هذه المناطق على حساب السكان الأصليين، وفق مقايضات وصفقات ما سمي بأستانا والتي أفرزت مئات آلاف المهجرين من عفرين وريف حلب وريفي حماة وإدلب وإحلال أناس آخرين من الغوطة وريف حمص ودرعا والبادية السورية مكانهم، وهؤلاء بمجملهم رافضون التعاطي مع حكومة دمشق ويرفضون العيش تحت كنفها مجدداً، لكنهم وضعوا أنفسهم سلعة مساومة بيد المحتل التركي ليحول المنطقة إلى خزان بشري للارتزاق والعمالة والارتهان للخارج.
واليوم يتم وضعهم على طاولة المساومات لتطبيع العلاقات بين نظام أنقرة وحكومة دمشق ورغم الآمال التي يضعها الكثيرون على مشروع القانون الأميركيّ الجديد، القاضي بمناهضة التطبيع فإنه لا يحوي أي بنود ملزمة لدول العالم بعدم التعاطي مع حكومة دمشق أو فرض عقوبات على الدول، التي تتعامل معها.
لكنّه في مجمله يدور حول منع المسؤولين الفدراليين داخل الولايات المتحدة الأميركية من اتخاذ أي إجراء يهدف إلى الاعتراف بحكومة دمشق أو أي حكومة سورية يقودها الأسد، كما يحظر على أيّ مسؤول فدرالي اتخاذ إجراء أو تخصيص أموال تشير رسميًا أو ضمنيًا إلى اعتراف الولايات المتحدة بحكومة يتواجد على رأسها بشار الأسد، إلى جانب أنَّ بنود مشروع القانون تحظر على أي رئيس أميركي التفكير في الاعتراف بالأسد، وهو بهذه الصورة ليس سوى مجرد محاولة أميركية تستهدف إظهار دعم السياسة الأميركية لمطالب ما تسمى بالمعارضة السورية، وإصرارها على ضرورة إحداث إصلاح سياسي جوهري دون أدنى فاعلية تذكر.
وما أحداث العنصرية الممنهجة، التي تابعناها بعد إحداث قيصري ضد اللاجئين السويين إلا محاولة للضغط من نظام دولة الاحتلال لإرسال رسائل متعددة الأطراف مفادها أن أنقرة تتحمل ضغطاً كبيراً بسبب إيواءها عدداً كبيراً من اللاجئين، وإن عليها أن تطبع علاقاتها مع حكومة دمشق لتخفيف الضغط عن نفسها بينما الحقيقة الكامنة وراء هذه التحركات يؤكد مراقبون إنها تأتي لاستكمال دورها في القضاء على من أسموا أنفسهم بالمعارضة، والتخلص من عبئهم الثقيل بعد أن وصلت الأطماع التركية إلى طريق مسدود، ولم يعد لهؤلاء أي دور في المرحلة القادمة.
لذا أدرك المدنيون القابعون تحت وطأة هذه المجموعات المتشرذمة متعددة الولاءات خطر المرحلة القادمة، وأن قادة المجموعات باتوا يقودونهم إلى التهلكة. لذا؛ باتت المناطق المحتلة قابعة على صفيحٍ ساخن تتقلب على نار المصالح والتطبيع الحاصلة اليوم، والتي تسعى لإنجاحها أطراف إقليمية ودولية عدة على رأسها موسكو والعراق.
اللاجئون.. ورقة اقتصادية هامة وقربان للتطبيع
روجت دولة الاحتلال التركي بأنها تسعى من خلال احتلالها مناطق شاسعة من سوريا إعادة اللاجئين السوريين إليها، لكنها حولت تلك المناطق الى بؤر للإرهاب وملاذاتٍ آمنة للإرهابيين لذا باتت اليوم تؤكد أن التطبيع سيساهم في إعادة اللاجئين الى بلدهم لكنها لن تحصل على أي نتيجة إيجابية كون الحل داخل سوريا لم ينضج بعد وحكومة دمشق لا زالت تتأرجح بين داعميها روسيا وإيران.
وعلى العكس من ذلك اللجوء السوري لم يثقل كاهل حكومة رجب أردوغان بل ساهم في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك وبالتالي لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية.
كما أن اللجوء السوري في تركيا ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا بعد أن استطاعوا وبتسهيلٍ من دولة الاحتلال بتهريب معداتهم ومصانعهم إلى الداخل التركي.
وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الأجنبي المعمول بها حتى الآن، والتي تفرض توظيف خمسة أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته، لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.
وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرفت حينها بأكبر أزمة لجوء في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل وكان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين.
وحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب عشرة مليارات يورو بينها ستة مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.
لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بتعب الممول ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية لذا بات النظام التركي يبحث عن بابٍ آخر يحقق منه مكاسب على أكتاف السوريين الذين ذاقوا ذرعاً من ويلات الحرب واللجوء.
ناهيك عن أن دولة الاحتلال التركي تعد مصدرة لكافة السلع الاستهلاكية الغذائية والصناعية والتكنولوجية وكانت المناطق المحتلة هي سوق موازية لضخ معظم بضائعها فيها حيث بلغت قيمة وارداتها أكثر من ملياري دولار حسب هيئة الإحصاء التركية لعام 2022 وقد ترى تركيا في أسواق مناطق سيطرة حكومة دمشق مستوردًا ذا جدوى اقتصادية مرتفعة، أولًا لقربها الجغرافي، وثانيًا بسبب الحاجة الملحة في أسواق الحكومة للسلع الغذائية والصناعية، وثالثًا لأن تركيا ستكون الملجأ الأهم للحكومة للالتفاف على العقوبات الدولية من خلال التعامل مع شركات تركية، أو فتح شركات في تركيا تصدر جميع الاحتياجات إلى مناطق سيطرتها.
ووفقًا لهذه المعادلة تكون إيران قد خسرت جزءًا كبيرًا من تجارتها مع حكومة دمشق لصالح تركيا القريبة منها جغرافيًا، والتي تمتلك في الوقت ذاته منتجات ذات جودة تضاهي المنتجات الإيرانية، وقد تلقى رواجًا وقبولًا أكثر في السوق السورية وهذا ما لا ترغب به طهران.
حسابات الربح والخسارة في ميزان المصالح الإقليمية
استبعاد إيران من المحادثات الثنائية المزمع إجراؤها لهو دليلٌ آخر على أن إيران أكبر الخاسرين من مسار التطبيع حيث تعتبر إيران إحدى الدول الضامنة لمسار أستانا إلى جانب كل من روسيا وتركيا، وهو مسار طرحته الدول الثلاث لخفض التصعيد ووقف إطلاق النار في بعض مناطق سوريا، وقد ترى إيران في الجهود الروسية لتشجيع تطبيع حكومة دمشق وتركيا للعلاقات السياسية، والاتفاق على تطبيق بعض الإجراءات الأمنية والعسكرية في البلاد، والوصول إلى اتفاقات خارج مظلة أستانا إبعادًا لها عن أيّة مشاركة فعلية في حلّ الملف السوري.
وفي وقت سابق صرح رئيس دولة الاحتلال التركي رجب أردوغان معلقًا على المبادرة العراقية التي أعلن عنها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتاريخ السادس من حزيران 2024 للوساطة بين تركيا وحكومة دمشق، وقد أعلن عدم قبوله وجود طرف ثالث إلى جانب حكومة دمشق في أي تفاهمات بين البلدين، وهو ما قد يدل على عدم رغبة الأتراك بوجود الإيرانيين في أيّ تفاهمات في مسار التطبيع.
لذا نرى أن حكومة دمشق تحاول المناورة بين الضغط الروسي والمقاومة الإيرانية لشراء الوقت في الفترة الحالية، بإصراره على طلب انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري لكن من غير الواضح إلى متى ستستطيع الحكومة مقاومة الرغبات الإيرانية برفض تطبيعه للعلاقات مع تركيا، وفي الوقت ذاته بوجود ضغط روسي لقبول مسار التطبيع.
فرفض حكومة دمشق دعوات أردوغان يحمل إحدى رسالتين، الأولى أن الحكومة تريد أن تخرج أمام قاعدتها الشعبية بمظهر المنتصر، وأن تركيا هي من تريد تطبيع العلاقات، والثانية استجابة الأسد للضغط الإيراني بعدم التطبيع مع تركيا على أساس الوضع الراهن، والذي يعني عدم انسحاب جيش الاحتلال التركي من شمال غرب سوريا.
فهذه السياسة يؤكد خبراء أنها بغرض المناورة بين الضغط الروسي والمقاومة الإيرانية لشراء الوقت في الفترة الحالية، بإصراره على طلب انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري وتأمل حكومة دمشق في حدوث تحولات على المستويين الإقليمي والدولي لتنتشلها من المأزق الذي هي فيه، كأنْ توقع إيران الاتفاق النووي مع الدول الغربية، أو أن تنسحب القوات الأميركية من شمال وشرق سوريا، أو تحصل تغيرات إقليمية دولية تؤدي لانفراج في الملف السوري، وهو أمر مستبعد في الوقت الحالي.
قد لا تعارض إيران تعويم حكومة دمشق على المستويين العربي والإقليمي وعودة علاقاته السياسية الدبلوماسية مع دول العالم كافة، لكن ما ترفضه طهران هو وقوع أي شكل من أشكال التطبيع الذي يضرّ بمصالحها ونفوذها في سوريا والدليل على ذلك نجده عندما نتأمل سلاسة تطبيع كل من السعودية والإمارات مع حكومة دمشق والذي شجعته إيران ورأت فيه مصلحة للحكومة، ولكنه في الوقت ذاته لا يضر بمصالحها ونفوذها في البلاد ثم نقارن ذلك بالتطبيع مع تركيا بالشروط التي تضعها الأخيرة والتي تُخرج إيران كأول الخاسرين من هذه العملية لدخولها في حسابات أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية ليست جزءًا منها.
بينما يقبع السوريين بين مطرقة أزمتهم المستعصية على الحل بفعل المصالح الدولية وسندان الأطماع الإقليمية التي تبعدهم أميالاً عن تكاتفهم في وجه مأساتهم وقطع كل السبل، التي قد تُخرجهم من عنق الزجاجة لذلك؛ فإن السوريين اليوم أمام تحدياتٍ مفصلية ليقرروا كيف يمكن لهم أن يضعوا اللبنة الأولى في بناء جدار الثقة فيما بينهم ليكون أساساً متيناً لحل أزمتهم المستعصية لكن بعيداً عن الإملاءات الخارجية والمصالح الإقليمية، وأن يكون الحل سورياً سورياً في نهاية المطاف.