ترقبٌ تشوبه الهواجس يسودُ الشرق الأوسط، بعد الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل في بيروت وطهران وقصف الحديدة باليمن، وقد خلقت الأحداث الأخيرة المتلاحقة تصوّراً بأنّ أيّ ميدان في الشرق الأوسط يمكن أن يتحول إلى جبهةٍ قتالٍ. وإذا كان اشتعال المنطقة ككل قد استوفى أسبابه، إلا أنّه رهن توافقٍ حول قرارٍ سياسيّ لأيّ من طرفي الصراع بالتنسيق مع حلفائه. وبالمجملِ فالحريقُ على مستوى المنطقة قرارٌ مؤجل منذ عقود طويلة، وكلّ الحروب التي وقعت كانت ضيقة في حيزها الجغرافيّ. ومبدئيّاً سترد طهران ضمن قواعد الاشتباك المعول بها، لأنّ كلفة عدم الرد أعلى من عدم الردِّ.
استهداف في بيروت
أولى الحوادث وقع الثلاثاء 29/7/22024 في الضاحية الجنوبيّة في بيروت باغتيال القياديّ في حزب الله فؤاد شكر المعروف باسم “السيد محسن” والذي لم يكن معروفاً خارج الدائرة الضيقة، وإذ لم يؤكد الحزب مقتله فوراً، إلا أنّه بعد ظهر الخميس أعلن العثور على جثمانه. ووصف اغتيال شكر بأنّه الأكبر بعد اغتيال عماد مغنية في 12/2/2008.
وقالت إسرائيل: إنّ استهداف “شكر” كان رداً على قصف ملعبٍ ببلدة مجدل شمس بالجولان السوريّ المحتل راح ضحيته 12 طفلاً في 27/7/2024، وفيما لم يعرف على وجه التأكيد مصدر استهداف الملعب إلا أنّ إسرائيل وحزب الله اللبنانيّ تبادلا الاتهامات. وكشف مصدر رسمي لبنانيّ، أنّ إسرائيل أبلغت لبنان بتنفيذ “ضربة عسكريّة” ضمن أراضيها على خلفيّة التصعيد الأخير وعلى خلفيّة هجوم مجدل شمس. وعلى خلفية التصعيد كما ألغت العديد من شركات الطيران رحلاتها الجويّة إلى بيروت خشية “الحرب الشاملة”، بعد تبادل الاتهامات والتهديد بين إسرائيل وحزب الله وتوتر الأوضاع فيما بينهما.
من جانبه، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القوميّ بالبيت الأبيض جون كيربي، إنّ “لإسرائيل كلّ الحق في الرد على هجوم حزب الله”، في إشارة إلى ضربة الجولان السوريّ التي أودت بحياة أطفال ببلدة مجدل شمس. وأضاف كيربي أنه “لا أحد يريد حرباً أوسع نطاقاً، وأنا واثق من أننا سنكون قادرين على تجنب مثل هذه النتيجة”. وأوضح أنّه لا توجد مؤشرات على أنَّ الضربة التي نفذها حزب الله اللبناني نهاية الأسبوع الماضي ستؤثر على محادثات الرهائن، مشيراً إلى أنّ المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن مستمرة.
اغتيال إسماعيل هنية في طهران
الحادثة الثانية كانت اغتيال رئيس المكتب السياسيّ لحركة “حماس” إسماعيل هنية في مقر إقامته في طهران بعد ساعات من مشاركته مراسم تنصيب الرئيس الإيرانيّ مسعود بزكشيان، وأكدت إيران اغتيالَ إسماعيل هنية في الثانية من صباح الأربعاء، في مقر إقامته بمبنى للمحاربين القدماء تابع للحرس الثوريّ بالعاصمة طهران، وقالت إنّ الهجوم تمّ بصاروخ “موجّه نحو جسده مباشرة”، أُطلق من خارج المجال الجويّ الإيرانيّ. وتم تداول أنّ الاستهداف الجويّ على علاقة بهاتفه القطريّ المحمول من نوع الثريا، أو هاتف مرافقه.
واتهمت إيران مباشرة إسرائيل باغتيال هنية، ونشر المرشد الأعلى علي خامنئي، تغريدة على موقع إكس قال فيها، “شعب إيران العزيز! التحق قائد المجاهدين الفلسطينيين الشجاع والبارز السيد إسماعيل هنية بحشد الله فجر الليلة الماضية”. واتهم خامئني إسرائيل باغتيال هنية، وهدد وتوعد إسرائيل بما قال إنها ستكون “عقوبة قاسية”. وتداولت عدة حسابات إيرانية صورا لرفع علم الانتقام الأحمر، أو ما يسمى “علم الثأر”، وفي مقطع مصور متداول، ظهر شخص يرفع العلم فوق قبة مسجد جمكران في مدينة قم الإيرانيّة، وهو العلم نفسه الذي رُفع عند اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في بغداد في 3/1/2021 بطائرة مسيرة أمريكيّة.
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيّة، أعلنت توصل صحفييها إلى أنّ إسماعيل هنية، اغتيل بعبوة ناسفة هُرّبت سراً إلى دار الضيافة التابع للحرس الثوري الإيراني في طهران منذ نحو شهرين. وقالت الصحيفة الأمريكيّة إنّها استندت إلى سبعة مسؤولين من الشرق الأوسط، منهم إيرانيان، إضافة لمسؤول أمريكيّ. وأكد خمسة منهم أن القنبلة فُجّرت عن بُعد، بعد التأكد من وجود هنية داخل غرفته.
وقال المسؤولون من الشرق الأوسط، إنّ هنية أقام في دار الضيافة عدة مرات أثناء زيارته طهران، وأنّ إسرائيل رغم عدم اعترافها بمسؤوليتها عن اغتياله، إلا أنّ استخباراتها أطلعت الولايات المتحدة والحكومات الغربيّة الأخرى على تفاصيل العملية في أعقابها مباشرة. ولكن هذا السيناريو إن صحّ فهو أكثر خطورة من الاستهداف بصاروخ من طائرة مسيرة، فهو يؤكد عمقاً خطيراً من الاختراقِ الإسرائيليّ للمنظومة الأمنيّة الإيرانيّة.
الخميس 1/8/2024، حذّر وزير الخارجية الأمريكيّ أنتوني بلينكن، من تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط عقب التصعيد الأخير واستهداف إسرائيل قياديين بجماعات مدعومة من إيران. ودعا بلينكن “الأطراف” في الشرق الأوسط إلى وقف “الأعمال التصعيديّة” والتوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
وقال إنّ تحقيق السلام “يبدأ بوقف إطلاق النار، ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أولاً على الأطراف التحدث والتوقف عن القيام بأعمال تصعيدية”. ونفى وزير الخارجية الأمريكيّ مشاركة بلاده في اغتيال هنية، مؤكداً صعوبة التكهن بتبعات عملية الاغتيال. وأكد أن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع الشركاء الإقليميين من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
استهداف الحشد الشعبيّ
والحادثة الثالثة، تمثلت باغتيال مجموعة من قادة الحشد الشعبيّ “حزب الله ـ العراق”. وأعلن الحشد الشعبي -كتائب حزب الله العراق- فجر الأربعاء 31/7/2024، وقوع انفجار في “اللواء 47” التابع له في منطقة جرف الصخر بمحافظة بابل وسط العراق، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى في صفوفه. وأضاف البيان الصادر عن الكتائب بأنَّ الاستهداف حصل “بطائرة مسيّرة أطلقت من قاعدة علي السالم في الكويت واستهدف مجموعة من خبراء المسيّرات كانوا يقومون بتنفيذ تجارب تقنية جديدة لرفع كفاءة مستوى الطائرات المسيّرة الاستطلاعيّة لمراقبة حدود كربلاء المقدّسة وطرقها الخارجيّة”. وطالبت الكتائب الحكومة العراقيّة “بالعمل الجاد لإنهاء وجود قوات الاحتلال” بحسب البيان.
وأعلنت القوات الأمريكيّة تنفيذ الاستهداف معتبرةً بأنّه “دفاع عن النفس”. وذكر مسؤولون أمريكيّون أنّ الضربة “استهدفت مسلحين، أشارت تقديرات إلى أنّهم يتطلعون إلى إطلاق طائرات مسيّرة، ويشكلون تهديداً للقوات الأمريكيّة وقوات التحالف الدوليّ”.
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكيّة “البنتاغون”، الجمعة 2/8/2024 أنّ عدد الهجمات التي تعرضت لها القواعد العسكريّة الأمريكيّة في منطقة الشرق الأوسط بلغت 180 هجوماً منذ 17/10/2023. مشيرةً إلى أنّهم لا يريدون أن تندلع حرب إقليميّة لكنهم سيدافعون عن قواتهم في أيّ مكان في العالم، بحسب إعلان البنتاغون.
وأنهى هذا الاستهداف أكثر من خمسة أشهر من الهدوء النسبيّ بين القوات الأمريكيّة والحشد الشعبيّ العراقيّ، إذ توقفت الهجمات ضد القوات الأمريكيّة في سوريا والعراق، مطلع شباط الماضي، باستثناء بعض العمليات العسكريّة، مثل استهداف قاعدة عين الأسد في 16/7/2024، بطائرتين مسيرتين دون وقوع إصابات أو أضرار.
مزيدٌ من الاستهدافات
قال الجيش الإسرائيليّ، الخميس 1/8/2024، إنّه استطاع قتل القائد العسكريّ لحماس “محمد الضيف”، رفقة قياديّ آخر في الحركة بغارة جوية في المواصي جنوب قطاع غزة. ويُلقب محمد الضيف بالرجل ذي التسعة أرواح، في إشارة إلى فشل اغتياله في سبع مرات سابقة، وهو محمد المصري المولود عام 1965 في مخيم خان يونس للاجئين بقطاع غزة. انضم إلى حماس خلال الانتفاضة الأولى عام 1987. ولقب بالضيف بعد انضمامه للحركة نظراً لأسلوب حياته المتنقل. وطوّر الضيف شبكة أنفاق حماس في قطاع غزة، كما طوّر خبرته في صناعة القنابل، وتتهمه إسرائيل بأنّه العقل المدبر لهجوم طوفان الأقصى في 7/10/2023.
وقال الناطق بالعربيّة باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إنّه تم التأكد من مقتل محمد الضيف على يد الجيش وجهاز الأمن العام “الشاباك”. وأضاف أنّ الضيف قُتل بغارة جويّة رفقة رافع سلامة قائد لواء خانيونس في حماس.
ولكن اغتيال محمد الضيف رغم أهميته، إلا أنّه لا يوضع في السياق نفسه مع الاغتيالات في بيروت وطهران، لأنّه في سياق حربٍ مفتوحة ومباشرة في قطاع غزة، واحتمال اغتيال الضيف كان قائماً على الدوام، ولكنه أكد المؤكد، في مواصلة إسرائيل الحرب لإضعافها عبر تصفية قيادييها.
وتشهد مناطق جنوب لبنان وإسرائيل وغزة ذروة التوتر بين الجهات المتصارعة على خلفيّة الاغتيالات بحق قياديين وفي ظل تبادل التهديدات من الطرفين بردود قاسية خلال الأيام القادمة.
والخميس أيضاً قُتل طفلان وامرأة وأُصيب خمسة آخرون، بقصف إسرائيليّ على جنوبي لبنان، وفقاً لوسائل إعلام لبنانيّة وعربيّة. ونقل تلفزيون سكاي نيوز، أن طفلين ومعهما امرأة قُتلا بقصف إسرائيلي على بلدة شمع، فيما أُصيب خمسة آخرون على أطراف البلدة نفسها بغارة إسرائيلية أخرى. وأوضحت أنّ الضحايا الثمانية هم من السوريين.
خيارات طهران وحلفائها للرد
هذه العمليات الثلاثة المتزامنة تحمل معنى واحد يعني أنه لا ينبغي تجاوز الخطوط الحمر. وبإضافة القصف الجويّ الإسرائيليّ للمنشآت النفطيّة خزانات البترول والبنى التحتية في مدينة الحديدة اليمنيّة في 20/7/2024 الذي أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 87 شخصاً، رداً على قصفٍ لمسيرة للحوثيين على تل أبيب. وبهذه الصورة تتبدى الأبعاد الحقيقة لميادين الاشتباك عبر الشرق الأوسط، والحلقة المركزيّة فيها هي طهران.
لطالما كان هناك على مدى عشرة أشهر من اندلاع الحرب في غزة، مسعى لتتجنب توسع بؤرة الحرائق عبر المنطقة، إلا أنّ وصل واقع المنطقة إلى حالة حرجة بعد حرب قاربت عشرة أشهر دون أن يستطيع النظام الغربي ومعه الكيان الصهيوني من تحقيق الأهداف التي وضعها لنفسه، وهو الآن أمام حد فاصل بين زمنين مختلفين.
كان من اللافت عدم إعلان تل أبيب المباشر لهذه العمليات وكذلك فعلت واشنطن، ولم تنفِ إسرائيل دورها ومسؤوليتها عن اغتيال هنية وشكر، فيما نفت واشنطن أي دور لها أو علم باغتيال إسماعيل هنية، ما يعني أنّ تل أبيب عملت باستقلاليّة وأرادت أن تبعث بعدة رسائل لإحراج المنظومة العربيّة باحتمال توسيع دائرة الحرب وتأكيد على امتلاك القوة وقدرته على الردع رغم مرور أشهر حرب غزة، وأنّه لا يتهيّب من استهداف أهداف بعيدة في اليمن أو العمق الجغرافيّ والأمنيّ الإيرانيّ وكذلك في الجوار اللبنانيّ فيما يواصل الحرب مباشرة في قطاع غزة.، وكذلك هي رسالة إلى الغرب وفي مقدمه واشنطن، التي نأت عن التورط في حربٍ إقليميّةٍ موسّعة، ومن جهة أخرى هي محاولة من جانب حكومة بنيامين نتنياهو يؤكد فيها لمعارضيه في الداخل وعموم الإسرائيليين بأنّه قادر على الانتصار، وتحقيق معادلة الأمن التي كسرت في السابع من أكتوبر الماضي، ومفادها أنّه سيواصل ضرب حماس في غزة وداعميها في الخارج ولو طالت المسافات عبر الإقليم.
لعله من المبكر تقييم الوضع المستقبليّ للمواجهة، ومستويات الردِّ ومواقعها وحجمها، إلا أنّ طهران مطالبة بالردِّ، ولكن دون تجاوز فج لقواعد الاشتباك المعمول بها، كيلا يتدحرج الوضع إلى حرب إقليميّة موسّعة تحاول كلّ الأطراف تجبنها، عدا تل أبيب لحسابات خاصة بها. إذ هي تدرك أنّ أيّ عوائد أيّ حربٍ ستكون لصالحها، لأنها ستفرض معطيات مختلفة على واشنطن ودول الغرب وتمنحها مكاسب سياسيّة تتجاوز المرحلة الحالية إلى المستقبل، وستفضي إلى مواقفَ أكثر حسماً إزاء حماس ولاحقاً دعم مسارِ التطبيعِ.
على أنّ الردّ إن حصل فسيكون على مستوى التنسيق والتكامل انطلاقاً من أربع تموضعات أولها إيران وحلفاؤها في لبنان والعراق واليمن، وسيتم استهداف مراكز عسكريّة حيويّة في “إسرائيل”، وسبق أنّ بعثت هذه القوى برسائل تحذيريّة مفادها أنّها تملك الصواريخ والمسيّرات التي يمكنها الوصول إلى إسرائيل، وإن كان صحيحاً أنّ الدفاعات الإسرائيليّة أسقطتها، إلا أنّ الأمر سيكونُ بغايةِ الصعوبة عندما يكون الاستهداف متزامناً وبرشقات مكثفة وطويلة، ووفق عقيدة “محور المقاومة” فإنّ امتلاك قوة الردع هو المعوّل لدفع المنظومة الغربيّة لإطفاء مُولِد النيران في منطقة الشرق الأوسط والإقرار بعجزها عن تغيير الخرائط الجيوسياسيّة، وعدم تجاوز خطوط النار التي رسمتها طهران مع حلفائها.