للوهلة الأولى، حينما تستطلعك الطريق المؤدية إلى الجهة الشرقية، لبداية إعلان الشمس الكون بيوم جديد في آخر الربيع، وقد هدّده قيظ الصيف بالمغادرة، تجد مربعاتٍ واسعةً من الأرض، ممتدّةً في عمق السهول، يغلب عليها اللون البني الفاتح، وقد خُطِّطت بمحراث، لا يخطئ طريقه المستقيم، ولا تشكو الأرض حدّة شفراته، ولا يضرّها حنين هديره، الذي يبلغ عنان السماء، فقد اشتاقت إلى طقوس بناء حياة البذرة من جديد، وإلى عشق الأرض. ذرّاتُ تراب محروثة حديثا، تتزاحم الطيور فيها مرنّمة أصوات الجياع، وحبّ البحث عن الغذاء والعمل، ومنتشية؛ للحصول على ما تجده من حبات متروكة في الأرض منذ حين، تطير هنا وهناك، تنقر متون الصخر والنبات؛ علّها توقظ النماء، وإعادة دورة الطبيعة من جديد، بعد أن هجرها المحبون مرة أخرى، وعلّها تكتفي ذلك اليوم، من طهر الثرى، الذي بدا عاشقا للنسيم والندى، بعد أعوام من وأده تحت أرض عشقت نجوم السماء.
وعلى المدى، تتناثر بذور الذهب الأبيض، عائدة نحو موطنها، الذي هجرته منذ الخريف الفائت، تسعى حثيثة نحو مسالك حياة جديدة، في دورة الطبيعة الأبدية، كتوائم فارقت أمهاتها في زمن الاختلاط، وسيرورة الفوضى والخوف والهروب من واقع أحداثه جمّة، في زمن الاختلافات العظمى، أسندت رؤوسها إلى وسادة الأرض، ونامت تنتظر زمن اللقاح السماوي، وري السحاب لها من غيوم غادرت سماءنا منذ حين.
فبعد لأي نثرت رياح الخريف الغاضبة، سنان قطافها المعتاد، لتلعن نهاية رحلة بذور كانت بالأمس حكايا فلاحين وزراع نشيطين، وفي الطريق المعتادة، والمؤدية نحو السهول الواسعة الكبيرة، ترى لونا أبيض، قد اتشحت الأرض به، ملوّنا المكان بلون الطهر النبيل، كأنه لفائف أجداث، قد قامت إلى محشرها، فأسبل النهار ضياء عيونه في لفحة الشمس الهادئة، التي اعتلت الأفق، وصدى الطير يسجح، ويُرجَّع في المنحنيات، فتبهر الأعين والناظرين ذرات من الثلج الأبيض، النقي، قد اتسقت وراء السواقي، التي جفّت، ونامت بين أحضان الصيف، الذي للتوِّ ودعنا، وكأنّها تستكين في كوخها المسجى في ردهة الأمكنة.
وعلى المدى البعيد من عينيك، ماست أغصان نبتٍ، قد ألِفَ الناسُ منظره، واستوى على سوق من النبت الأخضر القائم، حاملا لفائف بيضاً، باسمة للحياة، تجمعها أكف العذارى النشيطات، منشداتٍ نشيدَ الحبِّ الأبديِّ مع السماء، في لقائه بالأرض، فتتكدّس الأكداس في متاهات الأخاديد، التي تناثرت أطرافها في أديم الأرض المستدامة، وقد غرّدت الطير مع الحناجر، التي صدحت مناجية نجوم الفضاء؛ كي تحمي الطهر والحب المنمّق بسهول الجزيرة الباسمة، فراحت النسوة يرددن حكايا الخريف المودّع في طريق عودتهن من الحقول المبهجة، إلى بيوت ضمها السحر في بيان لغة العشق العذرية، لكن مرّ على الكل نسيم الغروب، غروب شاحب قاتم، أخذ معه رونق النور والضياء، فحلك المكان من شبح أبيض يأبى الاندثار، وتموجت الطير والأنام في صفوف من الألم والشكوى، والالتفات نحو الماضي الجميل، نحو مناجل الحصاد، الحادة، ونحو الرزق الوفير، الذي عمّ أرضا سُقيت بنبل ونقاء السواقي، فتشرّد اللحن، واستباح القدر أغاني العذارى وراء ذرات القطن النقية، وشدت الطيور أغنية العذاب الشجية، خلف حقول جراح البرية.
فلعلّ نظرة من ميسرة، تعيد ألق الأرض، وحقول الذهب الأبيض؛ تشدو بها شفاه المنتظرين، وتسمو الحكايا فرحة طربة خلف أكداس القطن الممتلئة، وتسير قصائد الحب في قوافيها المطّردة، تُلقى في مجالس القوم، ومضافات الخريف، الذي شارف على لقاء الشتاء، ولعل أملا من قادم مسرٍّ في صناديق البريد، يثلج أفئدة أسفت دموع الانتظار الطويل، هل هي حكايا زمن قادم مغيّر رسم دائرة الحب، في مثلث استمرارية الحياة، في المنجل، والمحراث، والنبت؟ أم أن طير السنونو هجرت هذه الأرض مرغمة، وزقزقت بعيدا في أرض دفئة تعيد لها فرحة الزنابق؟ لكن هناك في المنعرج الواسع تقيم جوقة البلابل حفلاً لسيمفونية الأمل، برفقة لقالق تشهّت بناء أعشاشها؛ كي تلم ندف قطن الجزيرة الغناء فراخها، التي تغني أغنية الفرح المستدام، فهل سمع الزمان، والفضاء، والمكان ألحان الغيم القادم؟ حتى ترفض الطير هجرة باتت حديث الناس في المقاهي، وفي مجالس أنسهم، بينما العجائز تجوس في شرفات الانتظار حركة القادمين والذاهبين في الترقّب الطويل لمغادر هجر بيوتا كَثُرت فيها الشكوى، فلعلّ أجراس القطن الممتلئة وقت الخريف في أصائل الغروب مرنّمة عودة الحياة لأرض عشقت نور القمر وعشقت رائحة الذهب الأبيض النقي على أوتار أغصان الخير القادم.