بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وصعود وسيطرة الاتحاد والترقي والقبول بتشكيل تركيا بحدودها الحالية بعد اتفاقية لوزان 1923 ضمن النظام العالمي، أصبح الدور الوظيفي المناط بتركيا المستحدثة كجغرافية وسلطة في المنطقة مهماً ومرسوماً بدقة. ولعل من أشهر أدوارها الوظيفية كانت تشكيلها حائط سد أمام تمدد الاتحاد السوفيتي وكذلك دورها في حلف بغداد لتنفيذ المؤامرات على الدول العربية والمنطقة حينها بالإضافة إلى وجودها في اتفاقية الرمح الثلاثي 1958، ودورها في القضاء على روح وقيم التحالفات التاريخية الديمقراطية بين شعوب المنطقة وتقسيمهم (الكرد، العرب، الترك، الأرمن، السريان الأشوريين،…) وتطبيق سياسات الإبادة من التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي للتمهيد لقدوم مفهوم الدولة القومية النمطية الاحادية إلى منطقتنا، بالإضافة اعترافها بإسرائيل كأول دولة بعد إعلان إسرائيل بعشرة دقائق.
الشرق الأوسط الكبير والسيطرة على ثلاث عواصم عربية
ومع إعطاء الدور الوظيفي من قبل القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي لأردوغان وحزب العدالة والتنمية الإخواني، أراد أردوغان أن يستفيد من كونه المتعهد لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد كما قال هو في عام 2006 وأن يعطى له جانب من الحرية والتمدد والتستر على أفعاله وأدواته كونه في النهاية يخدم ويهيئ الأرضية والمنطقة للمشروع الكبير العالمي للنظام المهيمن. ولعل من المهم فهم ما ذكر حتى نستطيع الدخول إلى فهم ومعرفة سيطرة أردوغان على ثلاثة عواصم عربية وربما أكثر وعينه على العواصم العربية الأخرى في محاولة التسابق مع إيران ومشروعها التوسعي للسيطرة على العواصم العربية والمنطقة بشكل عام.
لتحقيق أهدافها الاستعمارية ولتطويق العالم العربي للسيطرة على قراره وثرواته واحتلاله، تحاول تركيا التحرك في عدة اتجاهات ومسارات في جغرافية المنطقة مستندة إلى سيطرتها على ثلاثة عواصم على الأقل وهي:
1ـ الدوحة: مما لاشك فيه أن تأثير ونفوذ تركيا في قطر بات الآن أكبر من تأثير أي دولة عربية شقية، حيث تم توقيع عدة اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية بين أنقرة والدوحة تتيح للجانب التركي صلاحيات واسعة، وحتى أن المنشآت التركية لا يسمح للدوحة بدخولها، ويتواجد أكثر من 3000 عسكري تركي، بالإضافة إلى أن أغلب تحركات تركيا الاحتلالية وأدوات تركيا في الاحتلال يتم تمويلها من خزينة قطر. مثل المجموعات المرتزقة الإنكشارية مما يسمى ”الجيش الوطني السوري” الذي شكلته المخابرات التركية من القاعدة وداعش والنصرة التي هي أدوات تركيا في احتلال مناطق الشمال السوري عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض). وكما أن قطر أصبحت بعد الاحتلال التركي لها بؤرة للإخوان وقياداتهم مثل إسطنبول مكان لاستهداف شعوب المنطقة ودولها وبث خطاب الكراهية والعنف والفتنة والنفاق، بالإضافة إلى شراء قطر ومدها لنفوذ تركيا الأردوغانية عبر الكثير من المؤسسات الدولية التي أصبحت تتغافل وتتغاضى عن ممارسات السلطات التركية سواءً داخل تركيا أو خارجها.
2ـ مقديشو: يملك الصومال مجموعة من المزايا جعلتها عرضة للأطماع التركية، منها :
أـ أنه البلد الذي يتحكّم في مدخل مضيق باب المندب، أهمّ ممرٍّ بحري حيوي في حال تحكم تركيا به سيكون له تأثير مباشر على البحر الأحمر وقناة السويس أي تأثير على عدة دول منها مصر والسعودية والسودان وكذلك جيبوتي وأثيوبيا.
ب ـ على مقربة من دوائر الصراع الملتهبة في اليمن، وكدولة يضربها الفوضى والضعف والجوع، تحاول تركيا السيطرة على دوائر الحكم وصناع القرار فيها، ومن ثمّ التوغل بعمق نحو منطقة شرق أفريقيا، بكلّ ما يعنيه ذلك من السيطرة على أهمّ تخوم العالم العربي، مع تحصيل مجموعة من الفوائد السياسية والاقتصادية.
تجنيد المرتزقة الصوماليين والأفارقة واستخدامهم في ليبيا
تسلل أردوغان وحزبه إلى مقديشو أولاً تحت اسم المساعدات الإنسانية والإغاثية وعبر وكالة “تيكا” التي هي أحد أدوات السياسة الخارجية التركية المرنة، التي تمهد لما بعدها وتم بعدها السيطرة على القطاع التعليمي حتى أصبح المخابرات التركية تضع مناهج التعليم لطلاب الصومال تحت اسم مستشاري التعليم بالإضافة إلى حصول شركة “البيراك ” التركية على امتياز إدارة ميناء مقديشو لمدة 20 عاماً، والكثير من القطاعات الحياتية والحيوية وإقامة أكبر قاعدة عسكرية “توركسوم “في خارج تركيا في الصومال وتدريب المرتزقة تحت مسمى الأمن والجيش الصومالي حتى أصبحوا قسم من الجيش التركي في المنطقة.
ولعل تصويت ممثل الصومال في الجامعة العربية خارج إجماع الدول العربية في رفض تدخل واحتلال تركيا لليبيا واحتلالها لمناطق شمال وشرق سوريا ومناطق من باشور كردستان، وتأكد بعض الأنباء الواردة من مقديشو أن تركيا جندت حوالي 5000 من المرتزقة الصوماليين والأفارقة الذين دربتهم تركيا في قاعدتها في مقديشو، كما المرتزقة التي تجلبهم من مناطق التي تحتلها في شمال سوريا، كل هذا وغيره يعكس أن تركيا تسيطر وتحتل مقديشو بلا شك وتستخدمها لتجنيد وتشكيل المرتزقة ودعمهم ومن ثم استخدامهم حسبما يحتاج مصلحة السلطة التركية.
ووجود تركيا بهذا التأثير على مقربة من السعودية وكذلك اليمن وإقامتها لقاعدة في الصومال واستخدامها كقاعدة وبؤرة للتطرف والإرهاب مصدر قلق للجميع، وظهور الكثير من علامات التوافق والانسجام التركي الإيراني مثل اجتماعات الإخوان وإيران بتنسيق تركي وحثهم في الأسابيع الأخيرة عن التنسيق الإعلامي بينهم كونهم يستهدفون نفس الشعوب وذات المنطقة، يؤكد أن تواجد تركيا في مقديشو وإيران في صنعاء يكملان بعضهم ويسهلان أمور بعضهم في استهداف الدول العربية.
ومن المهم ألا ننسى أن تركيا لديها اتفاقية عسكرية لتدريب الجيش والأمن الأثيوبي مقبل مساعدتها عبر وكالة تيكا التركية، كما أن تركيا تدخلت في جزر القمر في عاصمتها مورني عبر الشؤون الإنسانية والإغاثية، وبنت هيئة الشؤون الدينية التركية مسجد السلطان عبد الحميد الثاني في جيبوتي، وقد أبدى سفير جيبوتي في تركيا رغبة بلاده في استضافتها لإقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي.
الأسباب ذاتها في تدخل تركيا في سوريا وليبيا
3ـ طرابلس: منذ الأيام الأولى لأحداث ليبيا عام 2011 تدخل ثنائي الإرهاب والشر تركيا وقطر وحاولوا السيطرة على ليبيا عبر أدواتهم من الإرهابيين من الإخوان والقاعدة وداعش وأقاموا مليشيات وجماعة للتحكم بالعاصمة طرابلس وبثروات الشعب الليبي من النفط والغاز، لكن عندما رفضهم الشعب الليبي وقام الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر وبدعم من الدول العربية لمحاربة إرهاب جماعات تركيا وقطر لإعادة الأمن والاستقرار والسلام للشعب الليبي، تدخل تركيا بجيشها وبمرتزقتها الإنكشاريين مما يسمى الجيش الوطني السوري. للحفاظ على أدواتها وحمايتهم حتى يتسنى لتركيا إقامة قواعد عسكرية واحتلال طرابلس والتوغل في الدول العربية في شمال أفريقيا، التوغل في الدول الإفريقية وإقامة قواعد عسكرية كما يتوارد الأنباء عن عقد تركيا اتفاقيات مع النيجر وتشاد المجاورتين لليبيا فيها لتطويق الدول العربية الرافضة لاحتلالها لليبيا ومناطق من شمال شرق سوريا وباشوركردستان.
ومن المهم للدول المجاورة لليبيا فهم الخطورة الكبيرة التي ستتشكل عليهم في حال تحول غرب ليبيا لمنطقة نفوذ تركيا فهي كمناطق شمالي سوريا المحتلة ستكون بؤرة للإرهاب الدولي وسيمتد الإرهاب إلى داخل دول الجوار الليبي، ولعل ما تفعله تركيا وما تقدمه للجماعات الارهابية مثل بوكو حرام وغيرها تحت مسمى العمل الإغاثي والإنساني في دول الساحل الإفريقي وغيرها موضع شك وتحقيق ورفض من دول القارة السمراء لما تقوم به تركيا.
أن تدخل تركيا في المنطقة واحتلالها للعديد من المناطق في الدول العربية وعبر الوسائل الخاصة بها، منها المؤسسات الإنسانية والإغاثية والثقافية والتعلمية والصحية بالإضافة إلى المرتزقة والإرهابين، وتركيا مهما قامت بأفعال ضد القانون الدولي وحقوق الإنسان تجد من يتستر عليها وعلى أفعال سلطاتها، يتماهى معها لاعتبارات المصالح والسلطوية القذرة. ومن يجد بأن تركيا تخلق الفوضى والاضطرابات وتنقل المرتزقة وتدويرهم بأسماء وأشكال مختلفة في النهاية هي لخدمة أسيادها من القوى المركزية في النظام العالمي المهيمن الذين هم بالأصل من يدفعون تركيا إلى أوضاع تسهل استغلالها ومن ثم الاستفادة قدر المستطاع في مشاريع الهيمنة وتفتيت المنطقة ومن ثم التخلص منهم عند انتهاء أدوارهم بكل بساطة من مبدأ الذي يكثر أعدائه يسهل انتهائه ومن صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء يؤكد ذلك. مهما حاول أردوغان والسلطة التركية من احتلال المنطقة وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية ظناً أنه يزيد أوراقه التفاوضية مع القوى العالمية لكنه في الطرف المقابل يتوحد شعوب المنطقة ودولها للذهاب إلى تنسيق المواقف وتوحيد الجهود الرامية إلى التخلص من أردوغان وإرهابيه واحتلالاته بدأً من باكور كردستان (جنوب شرق تركيا) ومن عفرين ورأس العين وتل أبيض ومناطق باشور كردستان ووصولاً إلى تحرير العواصم الثلاث طرابلس ومقديشو والدوحة وتقليل تأثير تركيا على العواصم الأخرى حتى يتحقق السلام والأمن والازدهار.