No Result
View All Result
المشاهدات 1
بشير عبد الفتاح ـ صحيفة الحياة –
ما إن باغت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم بإعلانه سحب ألفي جندي أمريكي من شمال وشرق سوريا، حتى انتعشت آمال الأتراك في أن يرفع هذا القرار الغطاء السياسي والعسكري عن “قوات سورية الديموقراطية”، ويوفر ظروفاً مواتية لعمليتهم العسكرية المزمعة ضد الكرد في شرق الفرات، غير متخوفين من تداعياتها السلبية المحتملة على علاقاتهم القلقة بواشنطن. فمثلما كان متوقعاً، لم تتوانَ تركيا، التي كانت تعد العدة منذ فترة لهذه العملية، في انتهاز فرصة الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، والذي يتزامن مع مواصلة الجيش التركي إرسال تعزيزات جديدة لقواته المنتشرة قرب الحدود السورية حتى بلغت ولاية غازي عنتاب ثم ولاية هطاي، في إطار الاستعدادات لشن عملية جديدة تستهدف منبج وشرق الفرات، وبمجرد إعلان ترامب سحب قواته، انهالت التهديدات التركية على “قوات سورية الديمقراطية” بدفنهم في خنادقهم من خلال حملة عسكرية ضارية تُجهز على قوات سوريا الديمقراطية في منبج وشرق الفرات.
ولم تتورع جهات تركية عن اعتبار الانسحاب الأمريكي من سورية انصياعاً لإرادة أنقرة بعد ضغوط هائلة مارسها الرئيس رجب طيب أردوغان على ترامب؛ لوقف الدعم العسكري واللوجستي والسياسي لـ”قوات سورية الديمقراطية”، مستشهدة بمبادرات أطلقتها إدارة ترامب “لاسترضاء تركيا”، كقرار البنتاغون بيع تركيا منظومة باتريوت الصاروخية، بالتزامن مع ادعاءات تركية بإمكانية تسليم الداعية فتح الله غولن، المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 لأنقرة، إضافة إلى الإعلان عن جوائز مالية لمن يدلي بمعلومات عن قيادات ثلاث من حزب العمال الكردستاني. غير أن الانسحاب الأمريكي المرتقب من سوريا لم يحل دون بروز تحديات عديدة أمام التحرك العسكري التركي المزمع في شرق الفرات، لعل أبرزها: اعتبار نظام الأسد وحلفائه الوجود العسكري التركي في سوريا غير شرعي، ما قد يضع القوات التركية هناك في مواجهة مع قوات سورية أو إيرانية أو كردية، خصوصاً مع مطالبة “قسد” نظام الأسد بالتصدي للعدوان التركي المحتمل، فيما يحرم انسحاب القوات الأمريكية تركيا من حليف مهم طالما نسَّقت معه داخل سوريا. وكذلك، تتحفز قوات النظام السوري لبسط سيطرتها على شرقي الفرات، ذي الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية والقريبة من حقول النفط؛ الأمر الذي من شأنه أن يطيل أمد العملية العسكرية التركية المرتقبة في شرق سوريا كما يزيد من صعوبتها ويرفع من كلفتها البشرية والمادية، في وقت تتسع رقعة الاحتجاجات الشعبية داخل تركيا جراء الركود الاقتصادي وتراجع الوضع المعيشي في تركيا وتراجعه باستمرار.
وعلى رأسها تطل تداعيات الارتباك الجيو إستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأمريكي المفاجئ وغير المدروس من شرق سوريا، كونه سيُعرّض حلفاء لواشنطن كإسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية لانكشاف إستراتيجي خطير. فمن جهة، سيرفع عن الأولى غطاءً إستراتيجياً وسياسياً مهماً لتدخلها العسكري المتواصل في سوريا بغية الحيلولة دون تنامي قدراتها العسكرية وتقويض النفوذ الإيراني المتفاقم هناك، بينما يُعرّض الأخيرة لمخاطر العمليات العسكرية التركية العنيفة على مسرح عمليات كردية شاسعة ومرتفعة الكثافة السكانية وأن حصلت العملية التركية ستحدث هناك كارثة كبيرة جداً. ومن جهة أخرى، سيطلق الانسحاب الأمريكي من سوريا أيادي روسيا وإيران هناك، كما سيفتح الباب لعودة “داعش” بكل قوة، خصوصاً مع تأكيد تقارير غربية عن وجود بقايا وجيوب داعش في سوريا والعراق، في الوقت الذي لا يتورع عن مهاجمة معاقل قوات سوريا الديمقراطية لقضم المزيد من الأراضي السورية، بينما يستعد الأمريكيون للرحيل. وفي حين تتطلع إيران لاستغلال تحالفها مع نظام دمشق لمواصلة مشروعها الهادف لإقامة ممر إستراتيجي يمتد من طهران إلى بغداد فسوريا ثم لبنان وصولاً إلى البحر المتوسط، بما يعظم نفوذها الإقليمي ويهدد حلفاء واشنطن فيها، بدأت روسيا في حشد قوات ونقل ذخائر إلى دير الزور، التي تحوي حقولاً نفطية كثيرة أهمها حقلا “العمر” و”التنك”، فيما يتوقع خبراء اندلاع تنافس روسي إيراني سوري على ملء الفراغ الجيو إستراتيجي الناجم عن الانسحاب العسكري الأمريكي من شرق الفرات. بدوره، يحاول مرتزقة “داعش” إعادة رص صفوفه مجدداً والتحضير لاستعادة المناطق التي انسحب منها، بل والتمدد إلى مناطق جديدة، مستغلاً انسحاب القوات الأمريكية. وما يؤكد قولنا هذا هو شن داعش هجمات على نقاط “قوات سوريا الديمقراطية” بقرى وبلدات عدة في دير الزور بعد ساعات من إعلان ترامب سحب قواته من سوريا.
ولا يبدو أن “قوات سورية الديموقراطية” ستغدو صيداً سهلاً للأتراك بعد الانسحاب الأمريكي، فقد قامت قوات سوريا الديمقراطية بالبحث عن الحليف البديل لواشنطن للحفاظ على الحد الأدنى من مغانمها ومكاسبها التي حققتها في السنوات الماضية. فمن جهة، عمدت إلى مطالبة نظام الأسد والجيش السوري الاضطلاع بمهمة حماية حدود سورية من أي عدوان تركي مرتقب، معتمدة في ذلك على عدم وجود تجارب أو خبرات صراعية مريرة مع دمشق، إذ تفاوضت معه مراراً بشأن تفاهمات سابقة. بيدَّ أن الأسد المتحفظ على تحالف قوات سوريا الديمقراطية مع واشنطن يتطلع إلى استعادة سيادته على شرق الفرات والمناطق التي انتزعها الكرد من “داعش”. بموازاة ذلك، طالبت قوات سوريا الديمقراطية المجتمع الدولي بإعلان شرق الفرات منطقة آمنة، وتوجهت إلى الدعم الفرنسي، كما هددت بوقف الحرب على “داعش” إذا لم تتراجع تركيا عن عمليتها العسكرية المرتقبة ضدها. وبينما لم يبدي نظام الأسد رداً على المطالب الكردية، أعلنت فرنسا استعدادها لتقديم الدعم السياسي والعسكري لقوات سورية الديمقراطية” في محاربة “داعش” مع السعي لإقناع واشنطن بتأجيل سحب قواتها من شرق الفرات، إذ سيواكب إعادة الانتشار الأمريكي في سورية تغيير في مواقع القوات الفرنسية و”قوات سورية الديمقراطية”، في المنطقة الشرقية من سوريا، التي تحاذي الحدود العراقية غرباً. ولا يزال الجدل محتدماً بشأن مستقبل الوجود الأمريكي في المنطقة، فبينما ترى دوائر إستراتيجية إعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا مجرد عملية إعادة انتشار مشروطة باحتفاظ الولايات المتحدة بحقها للتدخل في سوريا في أي وقت ضد “داعش”، أو لحماية مصالحها هناك، تؤكد جهات أمريكية إصرار واشنطن على مواصلة الحرب ضد الإرهاب، سواء من خلال فرق العمليات الخاصة المتمركزة في العراق، أو عبر نقل قواتها من سوريا إلى مدينة هولير الكردية العراقية ضمن خطة لإشراك القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية في ملء الفراغ الجيو إستراتيجي الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي في شرق الفرات، وتأمين الشريط الحدودي العراقي – السوري.
ويمكن الادعاء بأن فرص شن عملية عسكرية تركية في شرق الفرات كانت أوفر، ولو بقيود، حال استمرار الوجود العسكري الأمريكي هناك، فتحت وطأة ضغوط البنتاغون والكونغرس، اضطر ترامب إلى تأكيد التزامه محاربة “داعش” والإرهاب في سوريا والعراق، رغم إعلانه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ومن ثم أجبر تركيا على التحول من التركيز على محاربة الكرد إلى استهداف “داعش” داخل سورية مستقبلاً. وهو ما يفسر إعلان أردوغان عقب اتصال بنظيره الأمريكي عن تأجيل العملية العسكرية التركية المزمعة في شرق الفرات، ملوحاً بالتزام بلاده بالقضاء على “داعش”، فيما يعد تحولاً إستراتيجياً اضطرارياً، ولو مرحلياً، في الإستراتيجية العسكرية التركية حيال سورية بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل منها.
ورغم تبرير أردوغان قراره تأجيل عمليته العسكرية المرتقبة في شرق الفرات برغبته في تجنب تفشي الفوضى، وتلاشي النيران الصديقة، علاوة على إفساح المجال لتأمين الانسحاب الأمريكي من سوريا، يصعب تجاهل تأثير نظيره الأمريكي على قراره في هذا الصدد، خصوصاً بعدما تعرض ترامب بدوره لضغوط من دوائر أمريكية نافذة تزامنت مع تهديدات من “قوات سوريا الديمقراطية” بوقف الحرب على “داعش” حال شنت تركيا حملتها المزمعة ضد قوات سوريا الديمقراطية. وبناء عليه، أعلن وزير الخارجية التركي إرجاء الحديث عن تلك الحملة إلى ما بعد التقاء مسؤولين أتراك بنظرائهم الأمريكيين في واشنطن يوم الثامن من الشهر المقبل للتنسيق بشأن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، والذي سيستغرق ما يربو على مئة يوم، ربما تكون حبلى بمفاجآت إستراتيجية، على شاكلة انبعاث الخطر الداعشي، أو اندلاع مواجهات عسكرية بين القوات الأجنبية المتموضعة على المسرح السوري، والمتنافسة على ملأ الفراغ الإستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، بما قد يزج بمتغيرات ومعطيات جديدة إلى المسار الحالي للأحداث، أو يحمل ترامب وأردوغان على مراجعة سياساتهما الصادمة إزاء الأزمة السورية.
No Result
View All Result