انتهت الانتخابات التركية بفوز أردوغان على منافسه كمال كليجدار أوغلو المدعوم من الطاولة السداسية، ومن تحالف العمل والحرية، بقيادة حزب اليسار الأخضر، وبالرغم من استطلاعات الرأي، التي أكدت فوز كليجدار أوغلو في الانتخابات من الجولة الأولى، إلا أن النتائج جاءت عكس ذلك، لكن بالمقابل لم يفز أردوغان من الجولة الأولى، كما كان يتوقع، ففي الجولة الثانية تمكن أردوغان من الفوز بولاية جديدة تمتد حتى 2028 وبنسبة تصويت وصلت إلى 52% إلا أن الملفت في السياسة التركية قيام تركيا قبيل موعد الانتخابات بتقديم شحنات أسلحة، ومعدات عسكرية لكييف، حيث أكدت وزارة الخارجية الروسية 27/5/2023 أن تدفق شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية التركية إلى نظام كييف، يتعارض مع دعوات أنقرة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، ولا يتماشى مع دور الوساطة.
فهل يمكن القول، إنّ أردوغان قد بدأ بتغيير سياسته تجاه روسيا والعودة إلى الحاضنة الغربية مقابل الحصول على الدعم الغربي للفوز بالانتخابات؟ وكيف ستكون تركيا بعد 28 أيار في ظل الأزمات الداخلية والصراع الغربي الروسي في أوكرانيا، والأزمة السورية؟
السياسة الداخلية
تعاني تركيا في ظلّ حكم أردوغان أزمات كثيرة؛ فتشكّل تحدياً كبيراً لأردوغان في ظل سياسته الفاشية، التي أدّت إلى خلق هذه الأزمات، سواء في تضييق الحريات، وكمّ أفواه المعارضة، ومحاربة الأحزاب الكردية اليسارية، وسيطرته على مؤسّسات الدولة “الجيش، والقضاء، والتعليم، والصحافة”، وكذلك في ظلّ سياسته الاقتصادية، التي أوصلت البلاد لنسب تضخّم كبيرة، وانخفاض قيمة الليرة أمام الدولار، التي بلغت مستويات تاريخية إلى جانب ملف إعادة إعمار المناطق المنكوبة، وملف اللاجئين السوريين، ومن أبرز التحدّيات الداخلية:
الانتخابات المحلية “البلديات” 2024
الآن أمام أردوغان تحدٍ جديد، وهو استعادة بلديتي إسطنبول، وأنقرة من حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية 2024م.
بالعودة إلى الانتخابات الرئاسية، لم يتوقّع أردوغان الذهاب إلى جولة ثانية في الانتخابات الرئاسية، ما يعني تدنّي شعبيته، وحاجته لعقد تحالفات جديدة سواء مع القوميين، أو مع بعض الأحزاب الكردية الموالية له، للفوز بالانتخابات، والتي قد تؤثر على تحالفه مع حزب الحركة القومية.
اللافت في هذه الانتخابات ازدياد شعبية المعارضة، وقدرتها على منافسة أردوغان في الانتخابات، وقد تعكس نتائج الانتخابات المحلية “البلديات” المقرّرة في مارس/ آذار 2024، على مستوى شعبية وقوة الأحزاب في كسب البلديات في المدن الرئيسية، وحفاظ حزب الشعوب الديمقراطي “حزب اليسار الأخضر” على مقاعده البرلمانية وقدرته على توجيه قاعدته الشعبية لصالح مرشّح المعارضة “كمال كليجدار أوغلو” وهو ما يشكل تهديداً على شعبية أردوغان “خسارته لبلدية إسطنبول عام 2019″، حيث حصل كليجدار على أعلى النسب في المناطق الكردية “باكور كردستان” وهذه بعض النسب التي حصل عليها كمال كليجدار أوغلو بدعم من حزب الشعوب الديمقراطي “حزب اليسار الأخضر” حيث قال الكرد: لا لأردوغان.
تونجالي 82.8%، آمد 71.7%، شرناخ 76.3%، هكاري 72.1%، ماردين 65.2%، باتمان 68.1%، وان 61.5%، آكري 65.3%، إيغدير 66.8%، وغيرها من المناطق الكردية، التي حقّق فيها كليجدار أوغلو انتصاراً على أردوغان، أما في إسطنبول فقد حافظت المعارضة على تفوّقها 51.8%، وفي أنقرة على 51.2%، ولا يمكن لأردوغان نسيان خسارته لبلدية إسطنبول حينما لعب حزب الشعوب الديمقراطي دوراً كبيراً في فوز أكرم إمام أوغلو، وإزاحة حزب العدالة والتنمية من هذا المنصب بعد 25 سنة من السيطرة.
لذا سيعمل أردوغان على محاربة حزب اليسار الأخضر “حزب الشعوب الديمقراطي” من خلال اعتقال قادة الحزب بتهم مجهّزة مسبقاً، أو محاولة حظر الحزب بدواعي وجود اتفاقيات ضمنية بين الحزب، وحزب الشعب الجمهوريـ التي تخدم القضية الكردية مقابل حصول كليجدار أوغلو على دعم الحزب للفوز بالانتخابات الرئاسية. وقد تدعم الأحزاب القومية المعارضة “حزب الجيد بزعامة ميرال أكشينار، التي سارعت لتهنئة أردوغان” إلى جانب الأحزاب القومية المؤيّدة “حزب الحركة القومية” لتوجّهات أردوغان في محاربة حزب اليسار الأخضر الكردي.
وقد تؤدي الإجراءات التي سيتّبعها أردوغان إلى تعميق الخلافات بين الشعوب التركية؛ ما قد ينذر بحدوث أزمة داخلية أو ثورة ضد النظام الديكتاتوري “الربيع التركي”.
الأزمة الاقتصادية ومسألة اللاجئين السوريين
تعيش تركيا في ظل حكم أردوغان وضعاً اقتصادياً متدهوراً؛ حيث بلغ معدّل التضخّم الذي لم يكن يتجاوز 2.6%، خلال عام 2018، إلى أكثر من 85% خلال شهر تشرين من العام الماضي؛ وذلك بسبب السياسات المالية والنقدية الخاطئة، التي انتهجها أردوغان لتحسين الاقتصاد، وقد تراجعت معدّلات التضخّم إلى 57.6% في العام الحالي، وقد يُعزَى هذا الانخفاض إلى المساعدات الدولية الكبيرة، التي تلقّتها تركيا عقب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شهر شباط.
كما ترتبط معدّلات التضخّم بقيمة الليرة التركية والتي ما تزال تتكبد خسائر مستمرّة أمام الدولار، إذ إنه خلال الفترة من 2018 وحتى 2023 فقدت العملة التركية أكثر من 77 في المائة من قيمتها مقابل الدولار، فقد تجاوزت الليرة التركية عتبة 20 ليرة مقابل الدولار، بعد أن كانت 5.29 ليرة في نهاية 2018، وبالرغم من سياسته الاقتصادية الخاطئة إلّا أن أغلب المحلّلين الاقتصاديين يؤكّدون على استمرار أردوغان في سياسته المالية. كما يتوجّب على أردوغان بعد فوزه بالانتخابات، وتصويت أبناء المناطق المنكوبة له، الوفاء بوعوده الانتخابية في إعادة إعمار المناطق المنكوبة جرّاء الزلزال المدمّر، وهو بحد ذاته تحدٍ كبير في ظلّ معدّلات التضخّم وتراجع قيمة الليرة.
ويُضاف إلى ذلك ملف إعادة اللاجئين، والذي كان أحد أبرز ملفات الحملات الدعائية قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية وهؤلاء أيضاً “ممّن حملوا الجنسية التركية” صوّتوا لأردوغان، لمنع تهجيرهم بشكل قسري في حال فاز مرشّح المعارضة، إلّا أنّ أردوغان، الذي يدّعي العودة الطوعية لللاجئين، وفي ظل عدم رغبة أغلب اللاجئين في العودة إلى المناطق المحتلة “المستوطنات التي شيّدها أردوغان وبدعم من بعض الدول الخليجية” وفي ظل تحالفه مع الأحزاب القومية فقد لا يفي أردوغان بتعهّداته الانتخابية، ويعمل على ترحيل اللاجئين بشكلٍ قسري، خاصة بعدما ضمن فوزه بالانتخابات، كما أنّ عودة اللاجئين “طوعًا أو قسرًا” تدخل ضمن سياسته في تغيير ديمغرافية عفرين والشمال السوري.
السياسة الخارجية
أمام أردوغان تحديات كثيرة تكمن في إعادة ترتيب العلاقات مع الخارج، وتحسين العلاقة مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومع دول الجوار، وإيجاد نوع من التوازن في علاقته الخارجية بين روسيا من جهة وبين الغرب من جهة ثانية. إلّا أنّ الأزمة الأوكرانية والصراع الغربي الروسي قد يؤثّران على السياسة التي انتهجها أردوغان في استغلال الموقع الجيوسياسي لتركيا للحصول على مكاسب خارجية، وليس من المستبعَد على أردوغان تغيير البوصلة في المرحلة المقبلة، إلّا أنّ ذلك سيجرّ تركيا للدخول في دوّامة لا يمكن الخروج منها، والتي قد تنعكس سلباً عليها وستدفع ضريبتها في المستقبل “ضريبة سياسة أردوغان الخارجية”. فالسياسة البراغماتية التي ينتهجها أردوغان والتي لا تراعي الاتفاقيات ولا تحترم حسن الجوار، أدخلت تركيا في مأزق كبير بين عدم رضا الغرب تجاه سياسته من جهة، وذلك بتعاونه مع روسيا وشرائه منظومة S400 الروسية والاتفاقيات الاقتصادية وحتى العسكرية مع موسكو، والتعاون الثنائي الكبير في الأزمة السورية وأطماعه الاستعمارية باحتلال المزيد من الأراضي “كوباني، وتل رفعت” ضمن مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والتي قد تؤثّر سلباً على الدور الأمريكي في الأزمة السورية، إلى جانب رفضه انضمام السويد لحلف الناتو ورفضه تطبيق العقوبات على موسكو، والكثير من الملفات التي تتعارض مع التوجّهات الغربية في صراعها مع روسيا. وبين موسكو من جهة أخرى، وخشيته من الرد الروسي في حال قرّر العودة للحاضنة الغربية، والتي قد تنعكس على الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية المُبرَمة بينهما، ما قد يؤثّر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي التركي المتهالك، وعلى تواجدها غير الشرعي في الشمال السوري. ومن أبرز التحدّيات الخارجية:
الأزمة الأوكرانية
أمام ازدياد حدّة الصراع في أوكرانيا، لا يمكن للغرب الاستمرار في غضّ الطَّرْف عن الدور التركي كحليف مهمّ في الناتو وعن السياسة التي انتهجها أردوغان في تعامله مع الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا، خاصة أنّ الحرب قد بدأت تأخذ منحىً جديدًا سواء من خلال التصريحات التي تتعلّق بالأسلحة النووية، حيث صرّح الرئيس البيلاروسي بأنّه إذا كان هناك من يشعر بالقلق فلينضمّ إلى دولة الاتحاد بين بيلاروسيا وروسيا، وستكون هناك أسلحة نووية للجميع”، على الرغم من أنّ هذا التصريح يمثّل وجهة نظر بيلاروسيا ولا يمثل وجهة نظر موسكو، ولكن من المؤكّد أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن مؤخّراً عن نشر بلاده أسلحة نووية في بيلاروسيا في ظل استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية. أو من خلال قيام كييف باستهداف موسكو بالطائرات المسيّرة وحصولها على أسلحة متطوّرة من الغرب، وقد تُقدِم الأخيرة على دعم كييف بأسلحة استراتيجية بعيدة المدى وطائرات F16 إلى جانب استمرارها بدعم كييف على المدى الطويل؛ بحيث تجعل من أوكرانيا مستنقعاً لاستنزاف قدرات موسكو الاقتصادية والعسكرية؛ أي أنّ الحرب الروسية الأوكرانية ستستمرّ لفترة طويلة وهذا ما لا يخدم روسيا، وستكون لتركيا الدور الكبير في ذلك.
لذا في ظل التوتّر الكبير بين الغرب ورسيا قد تزداد الضغوط الغربية على أنقرة لاتباع نهجها في فرض العقوبات على موسكو، وبسبب التدهور الاقتصادي وملفات كثيرة تربطها بالغرب كونها عضو في حلف الناتو والتي هي موضع خلاف بين الطرفين، إلى جانب الخلافات مع الدول الإقليمية كمصر والإمارات وحتى المملكة العربية السعودية، لذا قد تكون تركيا مجبَرة لتنفيذ المطالب الغربية، وهو ما قد يؤثر على علاقتها مع موسكو كونها ترتبط معها في ملفات كثيرة اقتصادية وعسكرية “وسياسية تتعلق بالأزمة السورية” لا يمكن لأردوغان تجاهل تأثيرها على تركيا، فالسياسة التي انتهجها أردوغان جعلت تركيا مرتبطة بروسيا وتدور في فلكها في الكثير من الملفات، ومن الصعب عليه الخروج منها ما لم يكن هناك دعم غربي قوي له، وهو أمر قد يكون صعب التحقيق حالياً.
الأزمة السورية والأطماع التركية ”العثمانية الجديدة”
ففي الآونة الأخيرة ظهرت تصريحات من مسؤولين كبار أتراك حول حلب وضمّها إلى مناطق ما يُسمّى بـ “الميثاق الملّي” إلى جانب تصريحات أمير أردوغان في إدلب وزعيم تنظيم هيئة تحرير الشام (الجولاني) حول قرب موعد معركة حلب، وقد تكون هذه التصريحات استباقية لجسّ نبض كلّ من أمريكا وروسيا؛ أي أنّه وضع شرطاً مُسبقاً بأن أي طرف يمنحه الضوء الأخضر ستكون تركيا بجانبه. ولا تتوقّف أطماع أردوغان عند حلب بل تتعدّاها إلى كامل الحدود بين كوباني وصولاً إلى الحدود العراقية في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ومن المُحتمَل أن تكون للولايات المتحدة يد في ذلك “اتباع السياسة التي دفعت صدام حسين لاحتلال الكويت” وذلك بهدف ضرب التقارب التركي الروسي.
أمّا روسيا فستعمل على زيادة التنسيق الأمني مع تركيا ولتجنّب معركة حلب قد تدفع تركيا لاحتلال كوباني، وتل رفعت وربط المناطق المحتلّة الواقعة شرق الفرات “كِري سبي وسري كانيه” بالمناطق الواقعة في غرب الفرات “جرابلس والباب” أو حتى تقديم معلومات استخباراتية لاستهداف قادة قسد. كما وتعمل روسيا وبالتعاون مع إيران على تسريع عملية التصالح بين أردوغان والأسد والوصول إلى اتفاقات وتفاهمات جديدة، ومن ضمنها تعديل اتفاقية أضنة في خطوة استباقية لوقف أطماع تركيا في حلب، هذه الخطوة قابلتها الولايات المتحدة بدفع الدول العربية للانفتاح على النظام السوري وإعادة سوريا إلى الجامعة العربية لمواجهة السياسة الروسية. وضمن هذا السياق الضيّق من الملفات والأزمات التي تشكّل تحديات لأردوغان خلال ولايته الجديدة والتي قد تستمر حتى 2028 لإيجاد نوع من التوازن في علاقاته الخارجية بين روسيا والغرب، وهو أمر قد يكون بحد ذاته تحدياً كبيراً، فسياسته التي يقول عنها أردوغان إنّها محايدة إلا أنّها معارضة لتوجّهات الغرب التي تهدف إلى إجبار موسكو للانسحاب من المناطق التي احتلّتها في شرقي أوكرانيا، وحتى من شبه جزيرة القرم. فحدوث تغيرات جوهرية في الحرب الروسية الأوكرانية ”مثل استهداف الأراضي الروسية والعاصمة موسكو بالطائرات المُسيّرة، واحتمالية توجّه كييف لاستخدام صواريخ بعيدة المدى في ضرب العمق الروسي، والدعم النوعي لكييف من قبل الغرب، ونقل روسيا للأسلحة النووية إلى بيلاروسيا والهجمات الصاروخية غير المسبوقة، التي استهدفت كييف واستهداف مقرات القيادة فيها……” على الرغم من تمسّك أردوغان بتلك السياسة المحايدة – كما يدّعي – إلّا أنّ تركيا كعضو في حلف الناتو تقع عليها مسؤوليات كبيرة؛ أوّلها تطبيق العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو. لذا لم يعد بإمكان أردوغان اتباع تلك السياسة، وعليه كعضو في حلف الناتو تنفيذ المطالب الغربية، والتي ستؤثر على علاقته مع بوتين. ومع مئوية لوزان وأطماعه الجديدة في احتلال مدينة حلب لتنفيذ مشروعه العثماني “الميثاق الملّي” كل ذلك سيؤثر على علاقته مع بوتين الذي تربطه به اتفاقيات اقتصادية وعسكرية لا يمكن تجاهلها. كل ذلك يشكل تحدّياً ضمن سياسته الخارجية. ومن خلال الأطماع التركية في الشمال السوري يمكن التنبّؤ بتوجّهات أردوغان إمّا العودة للحاضنة الغربية أو التمسّك بروسيا.
أمّا داخلياً فالتحدّيات لا تقل أهمية عن الخارجية؛ فالنظام الاستبدادي الذي أسّسه أردوغان ومحاربته للأحزاب الكردية اليسارية وبروز القومويين الأتراك ومع الأزمة الاقتصادية قد تشهد تركيا تغيرات “كالربيع التركي” في حال فشله في إنهاء تلك الأزمات. إذاً؛ فخلال ولاية أردوغان الجديدة والتي قد تستمرّ حتى 2028 وفي ظل هذه التحديات وحال فشله قد تظهر تغيّرات داخلية وخارجية ذات أبعاد إقليمية ودولية.