سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تركيا تفقد موقعها الجيوستراتيجي يوماً بعد يوم

دراسة تحليلية سياسية ـ3ـ

بدلاً من “صفر مشاكل” تركيا أمام “ألف مشكلة”
مرّت تركيا خلال سنوات 2000-2002 بأزمة اقتصادية خانقة، وكذلك من الناحية السياسية؛ لم تكن تتمتّع بعلاقات جيّدة مع الخارج، برز الجانب السياسي لأردوغان خلال هذه الفترة، عمل أردوغان مع طاقمه أحمد داود أوغلو(وزير خارجية) وآخرين بزعم تحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي لتركيا، ففي بداية تسلّمه مقاليد الحكم توعّد أردوغان أن يتّخذ معايير الاتحاد الأوروبي والديمقراطية أساساً، وكذلك حلّ القضية الكردية، أمّا بخصوص العلاقة مع الخارج فقد عَمِلَ أردوغان بحسب نظرية أحمد داود أوغلو “صفر مشاكل”، إلى بعض الحلول المؤقّتة، مثل الإصلاحات في المجال الاقتصادي، فأزال ستة أصفار من العملة التركية من خلال سَنّ قانون خاص لها، وبهذا الشكل فقد راوغ أردوغان الشعب لبضعة سنين أخرى إلى أنّ رسّخ قدميه في السلطة حتى 2008م.
إذا ما ألقينا نظرة إلى العقدين الأخيرين وأجرينا مراجعة عامة في الإحصائيات الموجودة منذ تسلّمه السلطة إلى يومنا هذا، فسيتبيّن لنا إذا ما كان أردوغان فعلاً قد طوّر تركيا أم أنّه قد أعاد بها إلى الوراء. فمع البدء بالإصلاحات الاقتصادية وإزالة الأصفار من العملة التركية أصبحت قيمة الدولار مقابل الليرة التركية (1دولار = 0,7 ليرة تركية) ولكن هذه الحالة لم تدم طويلا، ففي 2006 أصبح الدولار مقابل الليرة التركية (1دولار = 1,42 ليرة تركية)، أمّا بعد الأزمة السورية 2014 فقد أصبح الدولار مقابل الليرة التركية (1 دولار = 2,27 ليرة تركية) لكن بعد سنوات 2016- 2018 فقدت الليرة التركية قيمتها أمام الدولار بشكل مريع، ومع مرور الوقت شيئًا فشيئًا، وفي بدايات 2024 فإنّ قيمة الليرة التركية مقابل الدولار (1 دولار = 32 ليرة تركية). كذلك في موضوع التضخّم المالي في تركيا، حيث بلغت نسبة التضخّم في شهر كانون الأول 2001 ـ 2002 في تركيا 5,32% وفي نيسان من عام 2012 ارتفعت النسبة لتصل إلى 11,14% وفي كانون الثاني 2024 ارتفعت النسبة إلى 64,86% هذه الأرقام الرسمية التي صرّحت بها الدولة التركية نفسها، علماً أنّ نسبة التضخّم الحقيقية قد تجاوزت حدّ 100% فعلياً.
في عهد أردوغان من الناحية السياسية كان من المفروض جعل المشاكل في الداخل ومع الخارج “صفر مشاكل” لكن حصل العكس، فقد بلغت “ألف مشكلة”، وعلى الصعيد الداخلي في بداية تسلّمه مقاليد الحكم تعهّد أردوغان للدولة العميقة تصفية القضية الكردية المتمثلة بحركة حرية كردستان، ووضع كافة جهوده في علاقاته الإقليمية والدولية خدمة لذلك، وبالتوازي مع الجيش الموجود قام أردوغان ببناء جيش آخر من تشكيلات الشرطة وكونتر كريلا “ضد الكريلا” والذين ما يسموا بحماة القرى والمرتزقة السوريين المرتبط به حيث يأتمر بتعليماته المباشرة، وتعامل مع الكرد بكل وحشيته ليبيدهم ويقضي عليهم، لكنّه لم يفلح في هذا المجال أيضا، ولم يتمكّن من إبادة الكرد وحركتهم. وإن عمليات الكريلا في بداية الشتاء 2024 ضد الجيش التركي والخسائر الفادحة التي ألحقت بجيشها أقلق أردوغان وجيشه.
كما ذكرنا وعلى الصعيد الخارجي فقد انتقل من “صفر مشاكل” إلى “ألف مشكلة”، وفي موضوع قضية مقتل جمال الخاشقجي (2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018) في القنصلية السعودية في إستنبول لم يوفّر أردوغان وصفاً نابياً إلّا ونعت به السعودية، وقد وصلت العلاقات بين البلدين إلى شبه القطيعة، حيث قامت السعودية بحملة مقاطعة البضائع التركية، وفي الجانب الآخر؛ فإنّ كبير رجال المافيا التركيّة “سادات بكر” قد كشف من الإمارات العربية المتحدة حقيقة سلطة أردوغان ومسؤوليه المرتبطين مباشرة مع عصابات المافيا وتجّار المخدّرات، وهذه المسألة قد تسبّبت بقطع العلاقات بين تركيا والإمارات بشكلٍ كامل، وحينها وجّه أردوغان كثيرًا من الألفاظ البذيئة للقيادة الإماراتية.
ومن جانب آخر؛ ساءت علاقات تركيا مع مصر بسبب اهتمام أردوغان بحركة الإخوان المسلمين ودعمه لرئيسها محمد مرسي واحتضانهم في تركيا، خصوصًا أنّ فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة المصرية قد أزعج أردوغان كثيراً، مما دفعه إلى وصف السيسي بالانقلابي والدكتاتور، كما أنّه قد تسبّب في فوضى عارمة في ليبيا نتيجة تدخّله في الشؤون الليبية الداخلية، حيث قدّم بشكل مباشر الدعم اللوجستي والسلاح وكل أشكال الدعم لمعارضي خليفة حفتر (فايز السراج)، وفي الدول العربية مثل تونس وغيرها حاول أردوغان جاهدًا أن يجد موطئ قدم له في تلك الدول من خلال دعمه لجبهة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، كما ساءت علاقات تركيا مع اليونان بسبب المطالبة ببعض الجزر وعمليات البحث والتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط. باختصار نتيجة سياسات أردوغان التخبّطية وتدخّله في الشؤون الداخلية للدول، أصبحت تركيا دولة منبوذة ومثيرة للقلاقل في المنطقة.
الغريب وكأنّه لم يحدث شيء وبعد كلّ هذه الشتائم والكلمات البذيئة والغليظة التي وجّهها أردوغان إلى قادة مصر والإمارات والسعودية وغيرها، وذلك بعد فشله في مشاريعه في سوريا، حيث ارتمى على أقدام قادة ورؤساء هذه الدول طالباً العفو والغفران لما اقترفه، وطلب فتح صفحة جديدة في تحسين العلاقات معها. فهذه الاستدارة التي بلغت مائة وثمانين درجة قد أفقدت أردوغان وحكومته الثقل تماماً، كذلك فقدت تركيا معها دورها ومكانتها على المستوى الإقليمي والعالمي. ولربّما يبرّر البعض موقف أردوغان هذا ويصفه بالحنكة السياسية والبراغماتية، لكن في الحقيقة جاءت هذه الاستدارة على حساب تركيا وليس الدول الأخرى، وأردوغان هو الذي تنازل عن أهدافه وطموحاته، تنازل في كثير من الملفات مثل الكفّ عن العبث بليبيا وطرد قيادات جماعة الإخوان المسلمين من تركيا وإغلاق قنواتها الإعلامية مثل (أورينت) وغيرها من الإجراءات الأخرى.