انكفاء العرب عن لبنان وعدم ممارسة دور مبكر ومؤثر في ليبيا يتيح ليس فقط لتركيا؛ بل لكل متربص بالعرب أن يحقق أغراضه، سقط المشروع التركي العثماني في الهيمنة على المنطقة العربية بعد أقل من ثلاث سنوات على بدء ما يسمى بـ الربيع العربي.
وقد نجحت تركيا بدايةً في تحقيق أهداف عدة كبيرة مثل إيصال مرشح «الإخوان المسلمين» في مصر محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، وفي دعم (حركة النهضة) «الإخوانية» التي وصلت إلى السلطة في تونس، وشددت أنقرة ضغوطها العسكرية عبر الجماعات الإرهابية لإسقاط النظام والدولة السورية، لكن بعد ذلك سقطت كل هذه الأهداف وتراجع المشروع التركي من مستوى «العثمانية الموسعة» إلى «العثمانية المصغرة» المعبر عنها بحدود الميثاق الملي لعام 1920، وفي إطار الأهداف الجديدة، دخلت تركيا سوريا عبر ثلاث عمليات عسكرية كبيرة واحتلت مساحات واسعة من أراضيها، في البداية ما سميت بدرع الفرات ومن ثم غصن الزيتون وآخرها ما تسمى بنبع السلام.
واحتلت كل مناطق شمال غربي سوريا، إضافة إلى محافظة إدلب، كما احتلت أجزاء واسعة بين تل أبيض ورأس العين في شمال شرقي سوريا بطول 150 كيلومتراً وعمق نحو 30 كيلومتراً، وما كان لتركيا أن تحتل هذه الأراضي لولا ضوء أخضر من روسيا في مناطق غربي الفرات ومن روسيا والولايات المتحدة شمال شرقي سوريا، ما شجع الاحتلال التركي للأراضي السورية، وساهمت في تطوير أهدافها وتوسيع تطلعاتها.
فأضافت إلى «البر القومي» «البحر القومي» لهذه التطلعات، والمقصود هنا إطلاق تركيا حملة عسكرية للهيمنة على ما تعتبره حدودها الزرقاء في البحر المتوسط، وهذا يفتح على مشكلات تركيا مع الدول التي تجاورها بحرياً، وخصوصاً اليونان وقبرص اليونانية، لكن تركيا ذهبت أبعد من ذلك من خلال التطلع وصولاً إلى ليبيا، وقد استفادت تركيا من الانقسام بين الليبيين فدعمت حكومة طرابلس ضد برلمان وحكومة بنغازي، وعقدت معها اتفاقين نادرين وخطرين اقتصادياً وعسكرياً أعادا تركيا للمرة الأولى خارجياً إلى واجهة الأحداث والتأثير على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ولم تستفد تركيا فقط من خلاف الليبيين؛ بل من الصراع الدولي، لاسيما بين أمريكا وروسيا لتستميل إلى جانبها واشنطن بهدف منع وقوع ليبيا بيد روسيا. والمفارقة هنا أن واشنطن؛ إذ تعتمد على تركيا، كما هو ظاهر على الأقل في ليبيا، فإنها لم تقف إلى جانب من تعتبرهم في خطها، وهذا يعكس ويؤكد المثل العربي «ما حك جلْدَكَ مثلُ ظفرك» وضرورة اعتماد إستراتيجية عربية واحدة وواضحة وحازمة لمواجهة المخاطر التي تواجه الأمن القومي العربي.
وقد جاء التحرك التركي في شرق المتوسط وفي ليبيا تحديداً ليعيد خلط الأوراق في منطقة كانت عصية على التركي منذ الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية. ولبنان من الساحات البحرية الزرقاء التي تحظى باهتمام ملحوظ لدى لنظام التركي. وقد فجّر وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي، قنبلة كبيرة خلال الأسبوع الماضي، عندما تحدث علناً عن مالٍ تركي يأتي من تركيا بعدما كان قد ألمح إلى أن جهات رسمية تركية هي التي ترسل الأموال، كذلك اتُهمت مجموعات تدعمها تركيا بالقيام بأعمال شغب وتكسير في وسط بيروت وقطع طرقات أمام المواطنين. وفي انتظار جلاء الحقيقة في هذه الأمور فإن تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 وهي مهتمة بالساحة اللبنانية وممارسة دورٍ ما فيها، وكانت البداية هي المشاركة في قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان وفي البحر.
كما عملت على احتضان الجماعات من أصل تركي في بعض قرى الشمال اللبناني والقيام بمشاريع ترميم آثار عثمانية، وما يشجع تركيا على «اختراق» الساحة اللبنانية هو تراجع الدور العربي (المصري والخليجي) في لبنان وعدم القيام بأي مبادرات تنقذ لبنان بعد الانهيار الاقتصادي، والدول تحاول دائماً اقتناص فرصٍ ذهبية لملء الفراغ أينما وجد. وانكفاء القوى العربية المؤثرة والمقتدرة مالياً عن لبنان كان فرصة ذهبية لتركيا لملء هذا الفراغ، وهذا يتطلب إعادة النظر في الإستراتيجية التي تعتمدها الدول العربية تجاه لبنان وضرورة عدم تركه لمصيره المجهول بعد أن كان مقصداً ومتنفساً لكل العرب في الأيام الخوالي. إن انكفاء العرب عن لبنان وعدم ممارسة دور مبكر ومؤثر في ليبيا يتيح ليس فقط لتركيا؛ بل لكل متربص بالعرب أن يحقق أغراضه.