No Result
View All Result
المشاهدات 1
رامان آزاد –
لا يمكن اعتبار العالم أعمى أو أصماً إزاء حربٍ بحجم العدوان التركيّ على مقاطعة عفرين، وقد نقلت كلُّ وسائل الإعلام أخبار المعارك والاشتباكات الدائرة اعتباراً من القرى الحدوديّة حتى التوغل في عمقها، وتحدثوا عن مجريات الأحداث وكلّ الانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال والمرتزقة الذي أحضرهم معه، كان العالم الذي يتشدق بشعارات السلام والديمقراطيّة والحريّة شاهداً على الحدث، وكان يعلم أنّ من دخل عفرين هم القتلة المأجورون واللصوص الوضيعون، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، ولم يكلف نفسه عناء الإدانة والتعبير عن موقف وجدانيّ.
مشاهد العنف رسائل سياسيّة
في مستوى السياسة جاءت مواقف الحكومات والدول أدنى بكثير من توجّهاتها التي طالما شنّفت الأذان بها، فالجغرافيا السوريّة أصبحت حياضاً تتناهبه الدول وفق مخططات مسبقة، وهم يختلفون فيما بينهم على أنّ فريقاً تمادى في بسط نفوذه في الجغرافيا وتجاوز الخطوط الحمر، والتركيّ ليس استثناء، فقد حاولت أنقرة غير مرّة التدخل العسكريّ المباشر، فنجحت في جرابلس والباب، وفي كلتا الحالتين كانت قد حصّلت توافقات من الدول الكبرى وبموجب تسويات وبدل مقابل، وبهذا لا يمكن القبول أنّ أنقرة فرضت تدخلها العسكريّ في عفرين أمراً واقعاً، فيما قبل به الآخرون مرغمين.
وتثبت الوقائع وكذلك تصريحات المسؤولين السياسيين في عواصم القرار الدوليّ أنّهم قد أُحيطوا علماً بغزوة السلطان وتمّ تحديد ساعة الصفر، لتنسحب القوات الروسيّة على رمزيتها العدديّة من عفرين، قبل يوم واحد فقط من العدوان، وأنّ تبادر واشنطن للقول: إنّه لا شأنَ لها بعفرين، وهي غير مشمولة باتفاق التعاون مع التحالف الدوليّ، ولا يُستبعد علمُ دمشق وطهران بالمسألة، ولكن في سياق التفاهمات الكبرى تنأى الحكومات عن إبداء مواقف الاعتراض مادامت ستجني ثماراً فيما سيأتي، وفعلاً تمّ لم يطل الزمن كثيراً حتى تمّ عقد اتفاقٍ عبر أنقرة مع «المسلحين» في ريف دمشق والغوطة الشرقيّة، هكذا بات اسمهم بعدما كانوا حتى الاسم القريب يُوصفون بالإرهابيين والمرتزقة، وأنّهم أدوات السعودية وأنّهم قتلوا المدنيين تشفياً وتفننوا بذلك حرقاً وذبحاً.
ربَّ سؤال يطرح نفسه ألم تكن الصور والمشاهد عن أعمال القتل والسرقة والنهب وسائر الممارسات الوحشيّة، كافية لتحرّك الضمير الإنسانيّ؟ ألم تكن أدلة دامغة لتثبت للعالم أيّ قطعان من المتوحشين انتهبت عذرية جغرافيا عفرين؟ فالعالم كان يتابع مجريات الأحداث وتفاصيلها ولكنه تجاوز حدود البراغماتيّة السياسيّة ليتنصل من الأخلاق والوجدان، وبالتالي فالتعامي والتجاهل هو موقف اختاره لنفسه، والصور والمشاهد تمّ نقلها علناً ولم تكن مجرّد تسريبات إعلاميّة بل كانت رسائل تمّت ترجمتها سياسيّاً وأراد أنقرة وصولها إلى كلّ عواصم أوروبا ولسان حالها «انظروا أي نوع من البشر نقوم بقيادتهم ونودّ إعادتهم إلى سورية!! فهذه المجاميع ستيمّم شطر بلادكم وتنغصَّ عيشكم، فالزموا الصمت حيالها»، ولم يدّخر أردوغان مناسبة لتذكير أوروبا عقب كلّ حادثة إرهابيّة بأنها تجني ثمار سياستها، وعلى هذا الأساس كانت تشاركيّة الاتيان بالإرهاب والصمت عنه، على أنّ الصمتَ لا يمنح الجريمة الشرعيّة بل هو مشاركة فيها، فالمنحرفون يواصلون إجرامهم ما داموا في منأى عن المحاسبة، وما لم يُوضع لهم حدٌّ لتماديهم.
صفقة سياسيّة يترجمها الميدان
أما موسكو فهي ماضية في خطة تمكينِ النظام في استعادة السيطرة على كلّ الجغرافيا السوريّة، بأيّ ثمنٍ، وحريصة على عدم عودة الإرهابيّة من التابعيّة الروسيّة إلى البلاد، وباعتبار دمشق مركز ثقل النظام، سعت روسيا بكلّ الوسائل لتطوير الإطار الآمن حول العاصمة، فأعادت تجربة حلب بعقد صفقة مع من تسميهم إرهابيين عبر الوسيط التركيّ، فانتقلت من ضفة محاربة الإرهاب إلى استثماره، ولعلها لا تجد ضيراً في ذلك مادامت تحقّق هدفها. أمّا وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف فتوجّه باللّوم إلى الولايات المتحدة: «إنّ التصرّفات الأمريكيّة في سورية إمّا استفزازٌ مُتعمّدٌ أو دليل على عَدم فَهم واشنطن للوَضع هُناك”، وَحثّ تركيا على “ضَبط النّفس».
لا زالت تَفاصيل الاتفاق التي تَكمُن خَلف الصّمت الدوليّ عن الاحتلال التركيّ غير واضحة المعالم والتي بمُقتضاها حصل أردوغان على الضّوء الأخضر للمُضي قُدماً في التوغّل العسكريّ، إذ أراد القضاء على القدرة العسكريّة والمشروع الديمقراطيّ ليوافق على حضور الكرد اجتماعات الحلّ السياسيّ بلا مشروع سياسيّ ومنزوعي القوة، فيما أعلنت دولٌ أوروبيّة كُبرى مِثل بريطانيا وألمانيا تأييدها للعملية، وأكّد ديمتري بيسكوف، المُتحدّث باسم الكرملين على أنّ المَسؤولين الرّوس على اتصال بالقِيادة التركيّة فيما يَتعلّق بالعَمليّة العَسكريّة التي تُنفذها قوّاتها في عفرين ضِد وحدات حِماية الشعب، وأنّ روسيا ما زالت تُؤمّن بوِحدة أراضي سورية، وتلك هي عادة الدول الكبرى بأن تلفق أيّ حجّة لتبرير سياساتها، لأنّ وحدة الأرض السوريّة والسيادة اُنتهكت واُستبيحت فعلاً بدخول الإرهاب والاحتلال التركيّ. وقد قال أردوغان: إنّه حَصل على مُباركةٍ روسيّةٍ للتدخّل العَسكريّ في عفرين، ولا نستبعد حُدوث ما هو أكثر من ذلك، أي “عَدم مُمانعة جدّيّة سوريّة إيرانيّة أيضاً، في إطارِ “صَفقةٍ” كُبرى جَرى التوصّل إليها، وتوافق دفع الكرد ثمنه مثلما جَرتْ العادة في مُعظَم صفقات المِنطقة طِوال العُقود الماضية.
ولكن ما يمكن قوله إنّ قوات النظام استعادت السّيطرة على قرىً جنوب إدلب ودخلت إلى مطار أبي الضهور العَسكريّ، وتوقفت لتبدأ معركة الحسم في الغوطة ومن ثم الترحيل الجماعيّ إلى الشمال.
مسافة عصية على القياس
المسافة بين عفرين والغوطة الشرقيّة ليست مسافة تُقاس بالبعد المكانيّ والموقع الجغرافيّ، بل هي في اختلاف بين مجتمعين عاشا شكلين من الحياة متناقضين خلال سنين الأزمة السوريّة، فالغوطة كانت عبارة عن بؤر توتر وشهدت معارك طاحنة وسقط معنى الأمان فيها، وتمّ تصفية الوجود السكانيّ إلى لون واحدٍ يدين بالولاء ويعتاش على الريال، ومن كان في الغوطة كان يتطلع على دخول دمشق دخول الفاتحين وهي على مقربة منه، فراح يمطرها بالقذائف على اعتبارها هدفاً عسكريّاً، وفي عدرا العماليّة أشرقت شمس نهار على الأهالي وقد فُصلت رؤوس عن الأجساد وتفحمت أخرى وتحوّلت إلى رماد بعد حرقها في الأفران، واُعتقلت نساء ووضعن في الأقفاص على الأسطح ليكون دروعاً بشريّة، فكانت النتيجة أنّ ممثلي هذه الفصائل ضمنوا مقاعد إلى طاولات التفاوض لتقرير مصير سوريا، وأيّ مصير ينتظر السوريين عندما يلتقي المتحاربون إلى الطاولات؟
في عفرين كانت حمائم السلام لا تغادر السماء، إذ هي انقلبت إلى خلية عمل يتواصل فيها البناء بعد عقود التغييب والإقصاء، وتحققت هذه المعادلة في بلد أضحت الأحياء والقرى والتلال مواقع استراتيجيّة ويُشار إليها فقط لأهميتها في القتال كأنّ تكون سبيل قطع الطرق، أو تكون تلالاً حاكمة ولم تسلم الأبنية العالية في المدن، أما عفرين فكانت قبلة النازحين من المناطق الساخنة، كان الاعتماد على الذات هو قاعدة الحياة، بما في ذلك الدفاع عن الذات، والنتيجة في نظر الساسة أنّهم استجابوا لمطالب أنقرة.
مشهد درعا يطيح ببقية الثورة
اليوم مع توجّه الجيش السوريّ إلى درعا فإنّ ثمّة تغيّراً جوهريّاً على المَشهد السوريّ وعلى كلّ القوى المُتصارعة على الأراضي السوريّة، والتّسليم بأنّ الثّورة السوريّة بالشَّكل المُتعارف عليه طِوال سَنواتِها الأولى قد انتهتْ، ومَعها كلّ التسميات السابقة والشعارات، وأنّ مقاتليها يتم ترحيلهم تباعاً إلى الشمال، لم تعد الحرب أهليّة، أو طائِفيّة، ولا حرباً من أجل الديمقراطيّة والحُريّات، ولا للإطاحة بنظام ديكتاتوريّ، فمشهد درعا يطيح ببقية الثورة، لقد سَقطت التوصيفات السّابقة، وباتت التسمية الجديدة والأكثر وضوحاً أنّنا كنا نعيش حالة صِراع إقليميّ دوليّ على سورية واليوم بدأت تنجز توافقاتها، وإلا فما مبرّر أن تقاتل كلّ هذه المجاميع وهي مصنّفة إسلاميّة سُنّية مُتشدّدة إلى جانب جيش الاحتلال التركيّ في عفرين، هي مناطق خارج سيطرة النظام وترفع شعارات الحُريّة والديمقراطيّة.
وفي تطورات درعا فقد أفاد المرصد السوريّ لحقوق الإنسان باستمرار الهدوء الحذر في عموم محافظة درعا، بعد قصف عنيف بأكثر من 120 غارة جويّة بعد فجر الأحد، استهدفت بلدة أم المياذن ومدينة درعا ومحيطهما. ورصد المرصد السوريّ عودة أعداد كبيرة من النازحين إلى بلداتهم وقراهم التي نزحوا منها، حيث أكّدت مصادر على أنَّ تعداد العائدين تجاوز 200 ألف مدنيّ، والغالبيّة الساحقة كانت على الحدود السوريّة – الأردنيّة فيما شهدت القرى والبلدات عمليات تعفيش كبيرة وواسعة. ومن المرتقب أن تستكمل قوات النظام انتشارها في المناطق الحدوديّة وصولاً إلى نقاط التماس مع مرتزقة جيش خالد بن الوليد المبايع لداعش.
وأعلن الجانب الروسيّ اليوم أن العسكريين الروس يخططون لإخراج 1000 مسلح مع أفراد أسرهم من منطقة خفض التوتر الجنوبية وأضاف في بيان صحفي اليوم، أنه نتيجة نجاح المفاوضات، ارتفع عدد البلدات المنضمة للهدنة إلى 90، موضحاً أنّ 75 بلدة انضمت في درعا، بما في ذلك 16 في اليوم الأخير، و15 في السويداء. وتسبّب القصف بتأجيل تنفيذ أحد بنود الاتفاق والذي ينصّ على إجلاء المسلحين والمدنيين غير الراغبين بالتسوية مع قوات النظام إلى الشمال السوريّ.
بهذه الآليّة التي اعتمدها الروسيّ مع النظام خلال العامين الماضيين، واستناداً لتوافق ثلاثي آستانه روسيا وتركيا وإيران وعبر ما يسمّى مناطق خفض التصعيد شهدت عدّة مناطق سوريّة اتفاقات عملت على إحداث تغيير ديمغرافي، آخرها في الغوطة الشرقيّة قرب دمشق أُجلي بموجبها عشرات آلاف المرتزقة والمدنيين إلى شمال البلاد.
المواقف الإقليميّة مبنية على تبادل المخاوف ولكنها تتقاطع العلاقات الغربية القائمة على تبادا المصالح، ولذلك يتم عقد صفقات تبادل المخاوف بالمصالح، والثمن يدفعه الكرد، وليس شيئاً مفاجئاً أن يخذل العالم قضية عادلة ومحقّة، ولكن البعض عندما يُخذل يختار الخنوع والرضوخ والاستسلام، وآخر يبقى متمسكاً بخياراته لينتقل من مرحلة نضاليّة إلى أخرى.
لا بَديل عن التّعايش في المِنطقة على أساس الحُريّات والديمقراطيّة واحترام حُقوق الإنسان، بعيداً عن العِرقيّة والطائفيّة والمَذهبيّة.
هذا هو النِّضال الحقيقي الذي يُغلِق جميع الأبواب في وجه التدخّلات الخارجيّة، سِياسيّة كانت أم عَسكريّة.
No Result
View All Result