لم تنفك أنقرة تعتمدُ سياسةَ التلاعبِ في هوةِ التناقضاتِ الدوليّة، وتوظّف ذلك لصالحِ التدخل العسكريّ في سوريا، فاحتلت مناطق في شمال سوريا، وصنعت من سوريين جيشاً موازياً يمكنها زجّه في ميادين متعددة اعتباراً من محاربةِ الكرد في سوريا وصولاً إلى ميادين خارجيّة في ليبيا وأذربيجان واليوم في أوكرانيا.
الحربُ في أوكرانيا مختلفةٌ جداً، لأنّها لا تقبلُ الرماديّة، فإما مع أو ضدّ، لأنّ الحربَ في جوهرها بدأت من هذا المعنى برفضِ موسكو محاولةَ “أطلسة” جوارها القريبِ، وهي تعتبر أوكرانيا مرتكزاً مهماً لأمنها القوميّ، وبذلك تتجاوز أوكرانيا ما جرى في ميادين ليبيا وسوريا وناغورنو كراباخ، وعلى أنقرة أن تحسمَ خياراتها، ولكنها حاولتِ التهرّبَ من حسمِ قرارها عبر محاولةِ لعبِ دورِ الوساطةِ بين موسكو وكييف، أي استمرار اللعبِ في المنطقةِ الرماديّة، إلا أنّ كييف طلبت إغلاقَ مضيقي البوسفور والدردنيل، وارتبكت أنقرة لتحاول البحث عن “فتوى” في اتفاق مونترو 1936 الذي يحددُ الملاحةَ في المضائق.
بعد سنوات من التدخل العسكري المباشر في بلدان الربيع العربيّ وبخاصة سوريا وليبيا والعراق والتوتر مع الجارة القريبة اليونان وتوسيع آفاق البحث عن الغاز في حوض المتوسط والتجاوز على المياه الاقتصادية لدول حوض المتوسط، انتهت كل صلاحية لسياسة صفر مشاكل، لتكون صفر أصدقاء.
ليس بوسع أنقرة اليوم مع اشتعالِ الحريق في أوكرانيا والفرز الدوليّ أـن تواصل سياستها السابقة، وباتت على مفرق التحول الإلزامي على مسافة قصيرة مع قلب الساعة الرمليّة والعد التنازلي على الاستحقاق الانتخابيّ عام 2023 وهي سنة التحولات الافتراضية وعلى وقع الأزمة الاقتصاديّة والبحث عن استثمارات اقتصاديّة، انفتحت أنقرة إلزامياً على دول الخليج الإمارات والإمارات وبدأت مفاوضات التصالح مع مصر. لبداية مرحلة تصفير المشاكل.
وفي تحولٍ جديدٍ كانتِ المغازلةُ كبيرة لإسرائيل بعد عقدٍ من المدِّ والجزر والتلاعب بالشعارات والقضية الفلسطينيّة حتى أسفرت عن زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ لأنقرة، في محاولة لكسبِ الرضا الأمريكيّ، وفي مسعىً لتحويلِ خط الغاز الإسرائيليّ إلى أوروبا عبر تركيا.
التحول الآخر كان الإعلان عن زيارة مفاجئة لرئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، بعد أيامٍ قليلةٍ من زيارةِ الرئيس الإسرائيلي، ما يدفع لربطِ الزيارة بمساعي اليونان أن تكونَ جزءاً من التفاهماتِ التركيّةِ – الإسرائيليّة المتوقعة في شرق المتوسط، ولا ينفصل عن هذا الحراك زيارة الرئيس الأذربيجانيّ إلى أنقرة وفتح العلاقة مع أرمينيا.
فيما من غير الواضح حجم الهزات الارتداديّة للزلزال الأوكرانيّ في سوريا وما إذا كان رصيد العلاقات الروسيّة ــ التركيّة في طريقه للاستهلاك مع التحولات التركيّة الأخيرة باعتبار سوريا موقعاً جيوسياسيّاً مهماً أيضاً في فرزِ مواقفِ الدولِ والحكوماتِ والحريق فيها لما ينطفئ بانتظار حسم المعادلات والمحاصصة.