لا يمكنُ فهمُ السياسةِ التركيّةِ في المنطقةِ إلا بمراجعةِ خريطةِ الانتشارِ العسكريّ والنفوذِ، فهي موجودةٌ في الخليجِ والقرنِ الإفريقيّ والبحر الأحمر والمتوسط، وبذلك فقد أوجدت لنفسها نقاط تمركزٍ في أكثر المناطق حساسيّة، رغبة بالانضمامِ إلى نادي الدولِ العظمى متجاوزةً إمكاناتها وأزمتها الاقتصاديّة مستخدمة الشعارات الدينيّة، وأذرعها الإخوانية، فيما عينُها على البترولِ والغاز واقتطاع أجزاء من الأرضِ لإحياءِ مشروعِ العثمانيّةِ الجديد.
إحياء التاريخ المليّ بالاحتلال
تحتلُ تركيا مناطق في شمال سوريا، (جرابلس والباب وعفرين وتل أبيض ورأس العين)، ونفذت ثلاث عمليات عسكريّة فيها (درع الفرات 24/8/2016، غصن الزيتون 20/1/2018، نبع السلام 9/10/2019)، واستخدمت المرتزقة السوريين في تنفيذها، والواقع أنّ العمليات الثلاث تخدم هدفاً واحداً هو إحياء الميثاق المليّ الذي أقره مجلس المبعوثان التركيّ في 28/1/1920، وتتجاوز مساحة المناطق المحتلة 8 آلاف كم2، وكما أنّ لتركيا وجود عسكريّ مباشر في محافظة إدلب عبر ما يسمى نقاط المراقبة واستغلت هدنة موسكو 5/3/2002 لتعزيز وجودها العسكريّ بآلاف الجنود والعربات وكذلك بمنظومات الدفاع الجويّ. وفي كلّ المناطق المحتلة باشرت أنقرة سياسة التتريك وتغيير التركيبة السكانية وربط اقتصادها بالاقتصادِ التركيّ ومؤخراً فرضت عليها بعملتها، وربطتها إداريّاً بالولاية التركية المقابلة.
يبلغُ عددُ القواعدِ العسكريّة التركيّة في إقليم كردستان أكثر من 20 قاعدة، (قيل 27 قاعدة عسكريّة). وتركيا جادة بالعملِ على احتلالِ الشريط الحدوديّ داخل سوريا والعراق، والمسألة تتجاوزُ عملية مخلب النسر والنمر. فقد كشفت صحيفة ميلييت التركيّة، أنّ القوات التركية، تخطط لإنشاء منطقة آمنة بعمق 40- 50 كم، داخل الحدود العراقيّة، بعد السيطرة على منطقة هفتانين.
لنتذكر تصريحَ رئيس الأركان التركيّ خلوصي آكار مع بداية عملية “نبع السلام”: “لا نتطلعُ إلى أراضي الآخرين، سنأخذ فقط ما هو لنا”. ومع بداية العملية العسكريّة في إقليم كردستان العراق صرح آكار: “ما الداعي في أن نأخذ الإذن والسماح من دخول بيتنا؟ فشمال العراق هو جزء من الميثاق الملليّ التركيّ، وفي المستقبل القريب سيصبح جزءاً من تركيا العظيمة.
ووفق الصحيفة فإنّه مع المكاسبِ “الافتراضيّة” التي حققتها القوات التركية في هفتانين، فمن المتوقعِ أن تنتقلَ العملياتُ إلى مناطق زاب وميتينا وسندورا شمال العراق. وأضافت أنّ ستة أيامٍ مرّت منذ انطلاقِ عملية “مخلب النمرِ” للقواتِ التركيّة على منطقة هفتانين، مشيرة إلى أنَّ الاشتباكات تتركز في محيط “تلة سيبان” الواقع على الجزء العلويّ من المنطقة.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ الجيش التركيّ، بعد سيطرته على تلة سيبان، يهدف للوصول إلى قرية كيشان التي تمتد من الحدود التركيّة إلى داخل شمال العراق، وبالتالي تشكيلَ خطاً آمناً نحو القاعدةِ التركيّةِ الموجودة في بلدة باتيفا. وأنَّ قوات الكوماندوس التركيّة، شنّت هجمات من جهات عدة ضد الكرد في تلة دوبشك. وأنَّ الهجوم الذي تشنه القوات التركيّة بإسناد جويّ مروحيّ، سيساهم بتقسيم مقاتلي حزبِ العمال في هفتانين إلى قسمين بعد السيطرةِ على تلة دوبشك.
وذكرت الصحيفة أيضاً، أنّ القوات التركيّة، تمكّنت من السيطرة على المنطقة الممتدة حتى هاكورك على الحدود الإيرانيّة في عملية المخلب التي انطلقت العام الماضي، ولكن “مخلب النمر” تكتسبُ أهمية كونها أنّها ستسيطر على المنطقة من منطقة شمدينلي (جنوب شرقي تركيا)، حتى أولوديري.
وفيما قالت الحكومة العراقيّة إنّها اعترضت على العملية العسكرية التي تشنّها تركيا شمال العراق، وطالبت بسحب قواتها من الأراضي العراقيّة. نقلت رويترز على لسان مسؤول تركي (لم تذكر اسمه) “أن العمليات جاءت بتنسيق بين بغداد وأنقرة”
يذكر أنّ مسألةَ إنشاءِ ما تسمّيه أنقرة “منطقة آمنة” سبق وأن ذكرته صحيفة ميلييت نفسها في عددها الصادر في 18/10/2016، أي باليوم الثاني لبدءِ العملية العسكريّة ضد مرتزقة داعش بالموصل، وأفادتِ الصحيفةُ حينها بأنَّ تركيا تخططُ لإقامةِ منطقةٍ أمنيّةٍ عازلة بعمق 10 كم في المناطق الحدوديّة العراقيّة، مشيرة إلى أنَّ أنقرة أبلغت واشنطن بهذه الخطة. ونقلت الصحيفة عن مصادر في أنقرة قولها، أنَّ “تركيا تخطط لتوزيع اللاجئين العراقيين المحتملين في المنطقة العازلة”، لافتة إلى أن “الحكومة التركية تتصرف على أساس تفويض من البرلمان سمح للجيش التركيّ بتنفيذ عمليات عسكريّة في سوريا والعراق”. وأضافت الصحيفة، أنّ الجيشّ التركي نقل وحدات عسكريّة إضافية إلى داخل العراق وأن تركيا لن تتخلى عن قاعدة بعشيقة في شمال العراق.
وزارةُ الدفاعِ التركيّة أعلنت في 14/6/2020 إطلاقَ عمليةِ “مخلب النسر” العسكريّة في باشور كردستان، وقالتِ الوزارة في بيانٍ على حسابها على موقع “تويتر”: انطلاق عملية “مخلب النسر”. وأصدرت قيادة العمليات المشتركة العراقيّة بياناً الأحد رداً على اختراق طائرات تركيّة الأجواء العراقيّة. واستنكر البيان اختراق 18 طائرة تركيّة المجال الجوي العراقيّ، حيث اتجهت إلى سنجار، مخمور، الكوير، أربيل وصولاً إلى قضاء الشرقاط بعمقِ 193 كم من الحدود التركية، واستهدفت مخيماً للاجئين قرب مخمور وسنجار. ويوم الأربعاء 17/6/2020 أعلنت وزارة الدفاع التركيّة، أنّ قواتها انتقلت إلى عملية “مخلب النمر”، في منطقة “هفتانين”، في إشارة إلى العملية البريّة. وقد تكبدت القوات الغازية خسائر كبيرةً في الأرواح والمعدات، وصدرت ردود فعلٍ عربيّة ضد العدوان.
بجوار إيران
يأخذ الوجود العسكريّ في قطر استثنائيّة خاصة فمن جهة الموقع الاستراتيجيّ في معبر الطاقة العالميّ، ومن جهة ثانية فهي محطة إخوانيّة في منطقة يتجاذبها فمن البر التيار السنيّ الوهابيّ من السعوديّ وعبر الخليج التيار الشيعيّ الجعفريّ من إيران، وقد أنشأت تركيا قاعدة عسكريّة في قطر باسم الريان في تشرين الثاني 2015، وتضم 200 مستشار والقاعدة تستوعب نحو 5 آلاف عسكريّ، وهي بصدد إقامة قاعدة طارق بن زياد، وقد وقعت اتفاقية دفاع مشترك مع قطر عام 2014، ووافق البرلمان التركيّ في 7/6/2017 على نشر قوات تركيّة في قطر. ويجب أن نتذكر أن أكبر قاعدة أمريكيّة خارج الولايات المتحدة هي قاعدة السيليّة في قطر.
أفغانستان هي بؤرة الجهاديّة الآسيويّة، وهي مهد القاعدة، وقد شاركت القوات التركية في الحرب على أفغانستان ضمن التحالف الدوليّ ورغم انتهاء مهمتها في كانون الأول 2014 إلا أنها واصلت البقاء مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد يتحول الوجود التركيّ فيها إلى دائم وإقامة قاعد عسكريّة. ومع الأخذ بعين الاعتبار الجوار مع إيران فإنّ الحضور التركيّ في قطر وأفغانستان
الوجود في البحر المتوسط
أولى القواعد العسكريّة التركيّة خارج البلاد أنشأتها في قبرص وقد دخلتها في 20/7/1974 بحجة حماية القبارصة الأتراك. ولازالت تحتفظ بقوات فيها بقوام 30 ألف جندي.
بدأ الوجود العسكريّ التركيّ في ليبيا منذ عام 2011 وفي 27/11/2019 وقعت مع حكومة الوفاق الإخوانيّة اتفاقيتين الأولى أمنيّة والثانية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية وبموجبه تم رسم كريدور بحري بطول 700 كم وعرض 200، وتتطلع أنقرة من خلاله توسيع مساحة المياه الاقتصاديّة للتنقيب عن النفط والغاز. وقد تدخلت أنقرة عسكريّاً في ليبيا عبر استخدام المرتزقة السوريين الذين تنقلهم تباعاً من المناطق المحتلة إلى ليبيا ووصل عددهم إلى 14700 مرتزق.
من الطبيعيّ أنّ الوجود التركيّ في ليبيا يثير حفيظة أوروبا، إذ أنها قريبة منها، وباتت ليبيا معبر الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا.
عينٌ على بابِ المندبِ
وفق خريطة الانتشار العسكريّ التركيّ في عمق المنطقة العربيّة وعلى امتداد مسار ممر أهم ممرات نقل الطاقة العالميّ، ذلك لأنّ متوسط العبور عبر باب المندب يبلغ نحو 21 ألف سفينة في العالم ونحو 13% من إجمالي النفط في العالم، وبما يوازي 2.5 تريليون دولار سنوياً.
تسعى تركيا لإيجاد مبررٍ للوجود العسكريّ في اليمن، عبر حزب الإصلاح اليمني ذي التوجهات الإخوانيّة، ويذكر أنّ مقاتلي الانقلاب في جنوب اليمن يسيطرون على جزير سقطرى، وتعمل أنقرة على إمدادهم بالسلاح عبر محافظة المهرة شرقاً على الحدود مع عمان. رهان أنقرة هو على إخوان اليمن والحصول على ميناء الحديدة على البحر الأحمر وكذلك ميناء عدن على المحيط الهنديّ. وقد بدأت الشخصيات الموالية لأنقرة بالدعاية للتدخل العسكريّ التركيّ في اليمن.
ونشر موقع “الميدان اليمني”، في 27/12/ 2019 معلومات حصرية عن موافقة الرئيس عبد ربه منصور هادي على مقترح للبحث عن خيارات بديلة للتحالف السعوديّ الإماراتيّ الذي خرج عن أهدافه في مساندة عودة الشرعية وإنهاء انقلاب الحوثيين على السلطة في أيلول 2014. وينطوي المقترح على الذهاب صوب العاصمة التركية أنقرة لطلب تدخلها بتمويل قطري.
في 7/6/2020 كشف رامي عبدالرحمن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، أنّ الاستخبارات التركية طلبت بشكل رسمي من الفصائل السورية الموالية لها تحضير مقاتلين “مرتزقة” بغية إرسالهم إلى اليمن للقتال مع الجماعات المُتشددة هناك، وقال عبد الرحمن إن “ما يسمى بغرفة عمليات أنقرة طلبت من الفصائل التي تجند المرتزقة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون 300 مقاتل من كل فصيل مقابل مبالغ مالية كبيرة قد تصل إلى 5 آلاف دولار شهريّاً لكلِّ مقاتل لدعم حركة الإصلاح في اليمن”.
تحاول تركيا تعزيز نفوذها في المناطق الساحلية من اليمن كمصلحة استراتيجية منفصلة لها، وذلك واضح من محاولة زيادة أنقرة لثقلها السياسي والعسكري في المحافظات الجنوبية للبلاد من خلال ذراعها “حزب الإصلاح” والتفاعل مع السلطات المحليّة وزعماء القبائل، ويشتبه في أنقرة بأنّها تخطط لتصبحَ قوةً منفصلةً في الصراعِ اليمنيّ من أجل تحييد سياسة المنافسين الإقليميين خاصة السعودية والإمارات والغالبِ باتفاقٍ مع طهران، ويمكن تتبع هذا النشاط التركيّ في عدة مناطق من اليمن في جزيرة سقطرى ومحافظات شبوة وأبين. ويُعتبر حزب الإصلاح الذراع السياسيّة لتنظيم الإخوان المسلمين العالميّ في اليمن، وهي الأداة التركيّة-القطريّة لضرب التحالف العربيّ، حيث يسعى محور أنقرة- الدوحة عبر قياداتٍ إخوانيّة مُقيمة في إسطنبول، للتسلّل إلى اليمنِ بأقنعةٍ مختلفة، وبخاصة تحت ستار المساعدات الإنسانيّة.
النفط الموعود في القرن الإفريقيّ
افتتح خلوصي آكار رئيس أركان الجيش التركيّ في 30/9/2017 قاعدة Turksorm العسكريّة في الصومال والقاعدة تطلُّ على المحيط الهندي ومساحتها 24كم2 ويمكنها استقبال قطع بحرية وطائرات، وأعادت تفعيل مطار مقديشو. وقد وقعت اتفاقية عسكريّة بين تركيا والصومال في 13/4/2012 واتفاقية دعم عسكري صناعي في كانون الثاني 2013، وفي 28/2/2014 وقعت اتفاقية تعزيز التعاون العسكريّ وإنشاء مدارس عسكريّة، وجاءت هذه الاتفاقيات بعد وصول عبد الله فرماجو إلى السلطة في الصومال. ومن اللافت تصريح الرئيس التركيّ في 19/1/2020 حول دعوة من الصومال لتركيا للتنقيب عن النفط في مياهه الإقليميّة، ولكن وزير النفط الصوماليّ عبد الرشيد محمد أحمد أكد أنّ الصومال لم يمنح امتيازاً للتنقيب عن النفط في سواحل البلاد حتى وإن كانت العلاقات مع أنقرة جيدة.
اهتمام تركيا بالقرن الإفريقيّ جاء كأولويّة أساسيّة في سياسة أنقرة بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وزار أردوغان الصومال عام 2011 وغزتها أولاً عبر القوة الناعمة وتحت مسمى المساعدات الإنسانيّة والإغاثيّة مثل وكالة التعاون والتنسيق “تيكا” وأنشأت مشفى باسم الرئيس التركيّ وكذلك أعادت تفعيل مطار مقديشو.
عُقد في شباط 2019 بالعاصمة البريطانية لندن، مؤتمر لبيع امتيازات التنقيب عن النفط في الشواطئ الصومالية مع كينيا في مثلث بحري تصل مساحته إلى 173 ألف كم2، ويضم 50 حقلًا نفطيًا، ومنحت التراخيص لشركة “إسبيكترام” البريطانية النرويجية، في الوقت الذي تشير فيه الدراسات إلى أن احتياطي النفط الصومالي قد يزيد على احتياطي السعودية، لكن اعترض رؤساء ثلاثة أحزاب صومالية على الصفقة وطالبوا بإلغائها.
نشرت صحيفة “ناشيونال إنترست” الأمريكية تقريرًا قالت فيه: “الصومال ليس مستعدًا لتطوير النفط ولكن مع توافر إمكانية الوصول إلى الممرات الملاحية والثروة الضخمة غير المستغلة التي قد تصل إلى نحو 110 مليارات برميل
تسعى أنقرة لتأمين موطئ قدم لها في جيبوتي ومن الملاحظ زيادة حجم التبادل الاقتصاديّ وزادت عدد الشركات التركيّة العاملة فيها من 2 عام 2012 إلى 18 شركة عام 2015، وبلغت الاستثمارات التركيّة فيها 130 مليون دولار عام 2017 وقد أنشأت تركيا منطقة اقتصاديّة على مياحة 5 مليون م2.
وكانت أنقرة أنقرة بصددِ إقامةِ قاعدةٍ عسكريّةٍ في جزيرة سواكن السودانيّة قبالة السواحل السعوديّة بموجب اتفاق أُبرم نهاية عام 2017، إلا أنّ ظروف الإطاحة بحكومة عمر حسن البشير أعاقت المشروع.
من غير الممكن أنّ هذا الانتشار العسكريّ التركي غائب عن حسابات واشنطن، التي لها مصالح في منطقة منابع النفط، والواقع أن ثمّة قواعد مازالت واشنطن تبعها وقد كشف جون بولتون في كتابه صوراً للعلاقة الأمريكية- التركيّ، ولا يمكن لواشنطن القبول بالوجودِ التركيّ دون موافقتها وربما بإشرافها!!