ليس مبالغة أنّ حكومة العدالة والتنمية حضّرت طويلاً للحربِ على عفرين، وبدأتها فعليّاً بمناوشات عبر الحدود وهجمات المرتزقة الموالين لها، وكانت بانتظار الحصول على ضوء أخضر من مراكز القرار وضمان الصمت الدوليّ، لتعقدَ صفقة تُكسبُ عدوانها الشرعيّة عبر التبادلِ.
استحضرت أنقرة في الحربِ على عفرين عواملَ التاريخ والقوميّة والدينِ وسخّرت ماكينةً إعلاميّةً ضخمةً لإدارةِ الحرب الخاصة وبثِّ الدعايات وتزوير الحقائق والأرقام، وجعلتِ المؤسسة الدينيّة رديفاً للمؤسسة العسكريّة التي واصلت الحرب بعنفٍ بدون رادعٍ أخلاقيّ.
رموزٌ عثمانيّة لرفعِ معنوياتِ الجنودِ
من أجل حشدِ الرأي العام لعمليّة “غصن الزيتون” وإثارةِ المشاعرِ القوميّةِ ورفعِ الروحِ القتاليّةِ للجنودِ استخدمتِ السلطاتُ التركيّة رموزاً عثمانيّة لها دلالةٌ معنويّةٌ وتاريخيّةٌ. فنقلت راية لواء المشاة 57، الذي يحملُ الشعارَ العثمانيّ إلى مدينة كيليس الحدوديّة لتسليمه للجنود المشاركين بعملية “غصن الزيتون”. وفعلاً أحضر مسؤولو بلدية باليكسير راية لواء 57 مشاة وسلمّوها لقيادة اللواء الثاني، وسبق ذلك أن أقامت فرقة “المهترخانة” العثمانيّة استعراضاً موسيقيّاً على الحدود السوريّة لتوديع الجنود المشاركين بالعملية العسكريّة.
لم تدّخر الحكومة التركيّة وسيلةً لرفع معنويات جنودها، حتى تقديم أكلة شعبيّة “محاشي إسكليب” التي كانت تُقدّم للجيشِ العثمانيّ قبل خمس قرونٍ للإيحاء لهم بأنّهم امتدادٌ للجيشِ العثمانيّ.
شعاراتٌ دينيّة وعناوين جهاديّة
عملتِ الحكومةُ التركيّة على استنهاضِ المشاعر الدينيّة واستثمارها لكسبِ الدعم لعدوانها، وعملتِ المؤسسةُ الدينيّةُ المواليةُ للحكومة وِسعَها لإيجادِ الفتاوى وإشغال الناس بالدعاء تحت عناوين وطنيّة.
ففي مساء أول يومٍ للعدوان20/1/2018 قال رئيس الشؤون الدينيّة علي أرباش على الموقع الإلكترونيّ لرئاسة الشؤون الدينيّة: “إنّ صلاة الفجر والعشاء في 90 ألف جامع بأنحاء تركيا سيتخللها الدعاءُ بالنصر للعمليّة القائمةِ على الجانبِ الآخر من الحدودِ”. وطالبَ أرباش المسؤولين الدينيين بقراءةِ سورة الفتح قبل أو بعد الصلاة “من أجل نجاح العمليّة التي بدأتها القوات التركيّة ضدّ من سمّاهم بـ”التنظيمات الإرهابيّة” التي تهدّدُ الوطنَ واستقرارَ البلادِ والدعاءِ للشعبِ والجيش التركيّ” حسب تعبيره.
شهد جامع بآمد اعتقالَ مصلين اعترضوا على خطبة الجمعة التي تحدثت عن بطولات الجيش التركيّ في عفرين. وانتقد مفتي آمد السابق ونائب حزب الشعوب الديمقراطيّ عن مدينة آمد نعمة الله أردوغموش هذا الإجراء، وأشار إلى أنّ سورة الفتح تتحدثُ عن السلامِ وليس الحرب.
نشرت الإدارة العامة لقوات الدرك التركيّة في 21/1/ 2018 على حسابها بموقع تويتر قصيدة شعريّة لتشجيع القوات المشاركة بالعدوان على عفرين واعتبرتِ الجيشَ التركيّ “آخر جيوش الإسلام”.
لم يختلف أردوغان بأسلوب خطابه عن التنظيماتِ السلفيّةِ بتوجيه تهم التكفير المقيتة، فخلال حفل افتتاح نفق قاسم باشا بإستنبول في 27/1/2018 قال مشيراً لحزب الاتحاد الديمقراطيّ: “إنّه تنظيمٌ إرهابيّ لا دينَ له ولا ثقافة، ولا يعرفُ الله”. وبرّرَ بطء الإنجازاتِ الميدانيّةِ بمراعاةِ عدم إلحاق الأضرار بالمدنيين مشيراً إلى أنّ الجيش التركيّ بمقدوره بمدرعاته وأسلحته الثقيلة السيطرة على المدينة في غضون يومين لو لم يراعِ المدنيين، على حد تعبيره.
خلال كلمة له بمدينة شروم وسط تركيا في 28/1/2018 حول “عملية غصن الزيتون”. قال أردوغان: “إنّ الجيش التركيّ يظهر حساسيّةً شديدةً لعدمِ الإضرارِ بالمدنيين خلال العمليّة”، والمفارقة استشهادُه بالحديثِ النبويّ “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. وفيما كانت أنقرة تواصل عدوانها الهمجيّ على عفرين نظمّت رئاسة الشؤون الدينيّة التركيّة، اجتماعاً دوليّاً بشأن القدس بمدينة إسطنبول يومي 29-30/1/2018. وقال بيان رئاسة الشؤون الدينيّة، إنّ غاية الاجتماع الدفاعُ عن قضية القدس وتأكيد أهميتها في العقيدة الإسلاميّة، وتعزيز مشاعر التضامن مع الشعب الفلسطينيّ.
11/2/2018 قال رئيس الشؤون الدينيّة التركيّة علي أرباش أنَّ سببَ بطءِ تقدّمِ الجيش التركيّ نحو عفرين يعودُ حسب زعمه إلى “التزامه بقواعد أخلاقيّاتِ الحرب بالإسلام”.
بتاريخ 18/2/ 2018 تناولت خطبة الجمعة الموحّدة بتركيا عمليّة “غصن الزيتون”. وورد في الخطبة المعنونةِ بالجهاد: على جميع المواطنين تحملُ المسؤوليّة في كفاح تركيا للحفاظ على كيانها، وتضمنتِ الخطبةُ الدعاءَ لنصرةِ الجيش التركيّ “الباسل” الذي يصارع من أجل استقلالِ تركيا ومستقبلها ووحدتها.
وفي 27/1/ 2018 وصف رئيس البرلمان التركيّ إسماعيل كهرمان عملية “غصن الزيتون” بالجهاد في سبيل الله”. واستهلَّ كهرمان بالحديث عن الدولة العثمانيَّة وما تعرّضت له تركيا على مدار تاريخها من انقلابات، زاعماً أنَّ هناك مساعٍ للقيام مجدداً بما تعرضت له تركيا من قبل.
وفي 29/1/ 2018 قال رئيس الشؤون الدينية التركيّة علي أرباش: “إنّ الجنود الأتراك يواصلون الجهاد هناك، بينما نواصل نحن الجهاد في الداخل التركي”، وذلك في تعليق منه على عملية “غصن الزيتون”.
الطورانيّة هي الهدف
وفي 23/1/ 2018 في تعليق مثير على العدوان على عفرين؛ أفاد أردوغان أنّ بلاده تتقدّم في سبيلِ تحقيقِ الهدف المثاليّ “التفاحة الحمراء” أو “الطورانيّة” وجمع كلّ الأتراك تحت إمبراطوريّة واحدة كبرى. وخلال كلمته في حفل جوائز الغرفة الصناعيّة بالقصر الرئاسي أشار أردوغان إلى دعم الشعب التركيّ بأكمله للعملية العسكريّة بعفرين باستثناء حفنة من “الخونة” باعوا عقولهم وأرواحهم للقوى الاستعماريّة، وفق تعبيره. وذكّر أردوغان بتدفق المواطنين على المساجد لتلاوة سورة الفتح والدعاء.
اضطراب إعلاميّ وعدديّ
وفي 3/2/2018 قال أردوغان: “إنَّ الجيش التركيّ بحمد الله بدأ بسط سيطرته على عدد من الجبال خلال عملية عفرين”. وأشار إلى أنّهم اقتربوا من المدينة. وفي 17/2/2018 قال أردوغان خلال كلمته في خلال الاجتماع السادس لحزب العدالة والتنمية بمدينة أفيون كارا إنهم يقتربون من النصر في عفرين يوماً يعد يوم، مشيراً إلى سيطرة القوات المشاركة بعملية “غصن الزيتون” على 300 كم2 من عفرين حتى الآن. وفي 05/3/2018 قال الناطق باسم الحكومة التركيّة، بكر بوزداغ: “إنّ نصف منطقة عفرين تقريباً باتت تحت سيطرة قوات عملية “غصن الزيتون”. وفي 6/3/2018 أفاد أردوغان أنّ الجيش التركيّ نجح إلى الآن بتطهير مساحة 700 كم2.
وبمقارنةِ التصريحاتِ والفارق الزمنيّ بينها ومساحة عفرين يتضحُ حجمُ الكذب فيها، وأنّ المطلوبَ هو مجرّد الضخِّ الإعلاميّ والتأثير على معنويات الأهالي، فالحديث عن قرب السيطرة على المدينة يناقضه تصريحُ بالسيطرة على مساحة 300كم2 وهي 16% من مساحة عفرين، وأما 700كم2 فتعني 38% من مساحتها.
ووقع أردوغان بعد أسبوع في خطأ أكبر بالاجتماع الموسع لرؤساء المدن التابعين لحزب العدالة والتنمية الذي يترأسه فأشار للسيطرةِ على مساحةِ 415 كم2، وتطهير 1000 قرية، وأنَّ سبعاً منها على مستوى مناطق، والحقيقة أن عفرين تضمُّ 366 قرية وسبع بلدات، وموقع سنديكا التركيّ يشيرُ إلى أنّ عفرين تضمَّ 372 قرية وهي أكبر نسبة للقرى بالمنطقة.
ويومها قال تقريرُ المرصدِ السوريّ لحقوق الإنسان: “إنّ القوات التركيّة والفصائل المساندة تسيطر على ما يعادل نحو 21% من مجموع قرى عفرين، حيث باتت 70 قرية وبلدة واحدة هي بلبلة، تحت سيطرة قوات غصن الزيتون”.
الابن قُتل في عفرين والأب مطرود من العمل!
بتاريخ 4/3/2018 تبيّن أنّ والد ضابط الصف عبد الله طه كوتش الذي قُتل في عفرين مفصولٌ من عمله ببلدية قونية بتهمة التورط بالمحاولة الانقلابيّة الفاشلة، ما جعل موقف وسائل الإعلام يتبدل من التعاطفِ للتجاهل. وبعدما تناولت وسائل الإعلام تصرفات والد كوتش خلال الجنازة بالمدحِ والافتخار، حذفت تلك الأخبار.
ذي إيكونوميست: الإعلام التركيّ لا يجرؤ على نشر الحقيقة
نشرت مجلة ذي إيكونوميست البريطانيّة في نسختها الأسبوع الأول من آذار مقالاً بعنوان “لا أحد في تركيا يجرؤ على نشر الحقيقة بشأن العملية في سوريا” سلّط الضوءَ على كيفيّة تناولِ الإعلام التركيّ لعمليّة “غصن الزيتون”. وأشارت المجلة إلى أنّ عدم تناول الأخبار بصورةٍ صادقةٍ إجراءٌ احترازيّ بالوقت الذي يقبع فيه أكثر من مئة صحفيّ داخل السجون. وأشارتِ المجلة إلى إعلان الجيش التركيّ تحييده أكثر من ألفين من العناصر الكرديّة دون إضراره بمدنيّ واحد دون أن تقدّم مؤسسة إعلاميّة واحدة على تدقيقِ هذه الأرقام المعلنة، وذكّرت أنّ تصريحاتِ الرئيس التركيّ أردوغان بشأن “الصفعة العثمانيّة” تصدّرت العناوين الرئيسيّة لـ16 صحيفة باليوم التالي.
الرئاسة التركيّة تصحّحُ تصريحاتِ أردوغان
في 14/3/2018 صرّح أردوغان: “لقد اقتربنا قليلاً من عفرين، وآمل بإذن الله أن تسقط بالكامل بحلول هذا المساء”. وفي اليوم التالي اضطرتِ الرئاسةُ التركيّة لتصحيح ما قاله وإعطائه تأويلاً آخر، فقالت: “إنّ أردوغان يأمل بتطويقِ عفرين بالكامل اليوم وليس سقوطها”. ولنتأكد من حالة الوهم التي يعيشها أردوغان.
حلبة ملاكمة داخل البرلمان التركيّ بسبب عفرين!
خلال جلسة للبرلمان التركيّ عقدت يوم 7/3/2018 نشبت مشاجرة بين نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعوب الديمقراطيّ المعارض حول الحرب على عفرين، فأثناء جلسات مناقشة حزمة القوانين، احتقنت أجواء البرلمان بعد اتهام نائب حزب الشعوب الديمقراطيّ عن مدينة آمد محمود توغرول الجيش التركيّ بممارسة عملية تطهير عرقيّ بعفرين. فراحت نائبة حزب العدالة والتنمية عن مدينة قونية ليلى شاهين أوسطا توغرول تزوّر الحقيقة قائلة: “الجيشُ يقاتلُ من أجل بلده وإن قُتل مدنيون؛ فإنّ العمال الكردستانيّ التابع لكم هو من يفعل ذلك. لا يمكنك قول شيء كهذا من هذا المنبر، أعترض على عباراتك هذه وألومك بسببها”. وأسفرت المشاجرة عن إصابة نائبين بجروحٍ خفيفة.
شرق الفرات حقيقة الخطة التركيّة
بتاريخ 10/3/2018 قال الرئيس التركيّ أردوغان: “نحن اليوم في عفرين، وغداً نتجه إلى منبج. وبعد غدٍ سنصلُ إلى شرق الفرات للقضاءِ على الإرهابيين حتى الحدود العراقيّة. إنّ قوات “غصنِ الزيتون” بإمكانها دخول مدينة عفرين في أيّ لحظة”. ويومها كان الجيش التركيّ على مسافة 10-15 كم عفرين.
كذبةٌ فاقعةٌ جداً
على مدى شهرين من العدوانِ لم تتوقف آلةِ القتل الهمجيّة مستهدفةً المناطق المأهولة بالسكان والبُنى التحتيّة، ونقلت كلّ وسائل الإعلام العالميّة صوراً لجرائم الحرب والمجازر بحقِّ المدنيين العزل. ولكن؛ أردوغان لم يبدِ أيّ حرجٍ من إطلاقِ كذبة مكشوفة يوم 6/3/2018 خلال المؤتمر الأسبوعيّ مع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم ليقول: “إنّ من يدّعون أنّ عفرين تشهدُ الظلم نفسه الذي تشهده المناطق الأخرى، سقط قناعهم” مؤكّداً أنّه لا يمكن لأحدٍ إثباتُ أنّ الجيشَ التركيّ أصاب متعمداً أيَّ مدنيّ بعفرين. وراح يردُّ بعنفٍ على اتهامِ حزبِ الشعبِ الجمهوريّ المعارضِ بأنّ الجيشِ الحر يضمُّ في صفوفه عناصرَ من القاعدةِ بالقول: “إنّ المعارضة التركيّة تحاولُ إظهارَ “الجيشَ السوريّ الحر” على أنّه تنظيم إرهابيّ ولكنه أهمُّ مساعدٍ لتركيا بتلك المعركة”. ولعله من حيث لا يدري اعترف بنصفِ الحقيقة إذ لم يبرّئِ “الجيشَ الحر” من الإرهابِ، بل وصفهم بأنّهم عونٌ له بإنفاذِ خطته، فالغاية عنده تبرر الوسيلة.
أردوغان يحذّر رئيس الأركان السابق
بتاريخ 13/2/2018 هدّد الرئيس التركيّ أردوغان رئيس الأركان السابق الجنرال إلكر باشبوغ باتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه، على خلفيّة تصريحاته في 8/2/2018 التي شدّد خلالها على ضرورةِ عدم استغلال “عملية عفرين” سياسيّاً. وعلّق أردوغان على تصريحات باشبوغ بالقول: “إنّ صدورَ تصريح كهذا من رئيس أركان ولو كان متقاعداً يشكّلُ كارثة كبيرة بالنسبة لنا”، وتساءل: “كيف يجرؤ على التحدث عن استغلال العمليّة العسكريّة بالسياسة الداخليّة”. ووجّه أردوغان حديثه لباشبوغ قائلاً: “عارٌ عليك”.
فضيحةُ تُهَمِ الخيانةِ لجنودٍ قتلى!
أصدرت نيابة إسطنبول في 10/10/2018 القرار رقم 33249/2018 القاضي باعتقالِ جنديين بتهمةِ الخيانةِ والإرهاب، والمفاجأة أنّ القرارَ جاء بعد صدور وثائقَ وفاةٍ رسميّة للجنديين، فضابط الصف أوكان آلتيبارماك قُتل بعملية “درع الفرات” فيما قُتل الملازم الأول، محمد جيهانجير شوبوكشو بعملية “غصن الزيتون”. ولتظهر فضيحة جديدة بتركيا تثبتُ زيفَ التهمِ الموجّهةِ للعسكريين بالخيانة والإرهاب والانتماء لحركة الخدمة، وأنّ الغاية تصفية المؤسسة العسكريّة من المعارضين. والمفارقة أنّ صحيفة “يني شفق” المقرّبة من النظام تحدثت عن بطولات الجنديين كشهيدين في وثائقيّ باسم “الذين لا يتسعون للتابوتِ”.