روناهي/ قامشلو- من قلب الوجع والدمار تنبت أزهار الأمل والحياة، لتكون رمزاً للمقاومة ضد المعتدين الذين لا يعرفون معنى الإنسانية ومجردين من الأحاسيس، يقطفون براعم الحياة ولا يأبهون بطفلٍ أو مسنٍ أو مريض.
كثيرةٌ هي الأوجاع التي خلفتها الأزمة السورية على مدار العشر سنوات الماضية، ويمتد الألم ويتجدد الجرح يوماً بعد يوم، فمن نزوحٍ لفقرٍ، لقتلٍ، لتشردٍ، فتدمير. من أزمةٍ لأزمة أكبر والهم يكبر والعيون تنتظر الفرج بقلوبٍ صابرة وإرادةٍ وعزيمةٍ ثابتة. أطفال ونساء وشيوخ أُجبروا على ترك ديارهم باحثين عن الحياة لعل العودة قريبة، فكان لهؤلاء المرتزقة كلمة أخرى فقد قاموا بارتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية دون رحمة، فكم من حلمٍ تناثر بين تلك الطرقات من بيوتهم إلى مخيماتٍ لا تحميهم برد الشتاء ولا حر الصيف، أطفال استعدوا لمصاعب النزوح فما كان منهم إلا أن يركنوا الأحلام جانباً ويفرغوا حقائب المدرسة من الكتب والدفاتر والألوان لتكون كسرة الخبز وشربة الماء رفيقة الدرب والسلاح الذي يساعدهم على مواصلة الدرب.
أسئلة على شفاه خجولة
لكن أن يكون النازح شاباً أو شابة من ذوي الاحتياجات الخاصة (متلازمة داون) فالوضع يصبح أصعب، حربٌ لأجل الحياة وصراع للبقاء، فالروح غالية والحياة جميلة والرغبة في البقاء والحفاظ عليه قائمة، ومن بين ركام الحزن والحرب تبزغ شمس الأمل لتداعب بخيوطها عينا هذان الشابان بلطفٍ وحنان، فالنصر قادم وأمل الرجوع حلمٌ قريب التحقق، الكثير من التساؤلات دارت في ذهننا، ماذا تركت آثار النزوح في نفس هذين الشابين؟ هل نسيا الألم وعذابات تلك الرحلة الشاقة؟ هل كان حلم العودة قريباً؟
“الطفل السعيد”!!!
فكان الجواب حزيناً واقفاً على مقلتا أعينهم، ولكن الإرادة لم
تفارقهم رغم كل ما مروا به، فجلسنا ننصت بشغفٍ لهذا الشاب النازح العائد بعد انتهاء رحلة العذاب والألم هذه، وأذهلتنا طريقة رده على الأسئلة التي وجهناها له ربما لأنها لم تكن متوقعة من شخصٍ جل ما يطمح إليه نومٌ آمن ولقمة هنية وعيشة سعيدة، فأصحاب هذا المرض يُطلق عليهم منذ الطفولة “الطفل السعيد”، نظراً لما يتمتعون به من حب للحياة وشغفٍ بالموسيقى، ولكن كان الواقع أقسى وأشد ألماً عليهما، فلم تكن السعادة والوجه السعيد من نصيبهما، فقد عانا من الغربة وهم في وطنهم، فلا حول لهم ولا قوة إلا خيامٌ تلعب بها رياح الشتاء.
الشاب أحمد العلي من أبناء مدينة الرقة يعاني منذ الصغر هو وشقيقته من متلازمة “داون” يبلغ حوالي السادسة والثلاثون من عمره لم تفارق ذهنه تلك الوقائع والأحداث التي مرت عليه هناك أثناء سيطرة متطرفي داعش على مدينة الرقة، وعن ذلك الطريق الطويل الشاق من الرقة إلى المخيم، والذي حدثنا حول هذا الموضوع قائلاً: “لقد أرغمنا على النزوح وترك منزلنا، ومن هول ما حدث تغطينا في العراء “بشوادر” وفي أرضٍ لا نعرف كيف السبيل للخلاص، وفي صباح اليوم التالي ولحسن حظنا مرت بجانبنا تلك المركبة التي كانت طوق النجاة لنا، وأوصلتنا لبر الأمان حيث المخيم في عين عيسى”.
الارتماء بحضن الديار مرة أخرى
وبعد شقاء وتعب يومين في العراء والجوع الذي سيطر عليهم أخذت العائلة ما تحتاج إليه من غذاء وكساء، ولكن الأمل بالعودة لم يذبل يوماً في قلوبهم، وجاء العيد مبشراً بالعودة إلى الديار بعد ثلاثة أشهر من النزوح، فبعد تحرير المنطقة من المرتزقة وإدارتها من قبل الإدارة المدنية سطعت شمسهم من جديد، ولكن كان هناك خوفٌ ينادي لهم بالبقاء في المخيم، وعن هذا الأمر أشار العلي: “لقد كان للعودة ضريبتها فحلم العودة شوهه الخوف من ألغامٍ وركام الذكريات، ولكن الإدارة المدنية طمأنتنا ودخلت الأمان والسكينة إلى قلوبنا ورجعنا أخيراً، ولكن بيتنا كان شبه مُدمر واجتمعت العائلة تحت سقف غرفة واحدة لا تزال محافظة على جدرانها وشقيقاتها متهاويات”.
رغم المصاعب والآلام والآهات لم ينتزع التطرف الإنسانية والرحمة من قلوب الناس الأبرياء الذين تغربوا قسراً وهم في كنف وطنهم، ولكن الإرادة القوية والتصميم والتمسك بالهوية والوطن كسر تلك الحواجز والموانع وبمساعدة الإدارة المدنية عمّت الفرحة في كل منطقة دنسها المرتزقة ومنها مدينة الرقة.