د. طه علي أحمد (باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهويّة)
مع تعدد طرائق الوصول للحقيقة التي اعتمدها الإنسان على مَرِّ تاريخه، تبرُز أهميةُ الميثولوجيا أو علم الأساطير؛ كونها تستند إلى رؤيةٍ كونيّةٍ تضرب بجذورها في عُمقِ التاريخ الإنساني، فهي تُعَبِّر عن معارفِ الإنسان الأولى وأخلاقه ومستويات علومه وتأملاته، وهو ما يُعبِّر عنه القرآن الكريم في كلمة “أساطير الأوَّلين” أي ما سطَّرَه الأولون في مدوّناتهم أياً كان شكلُها – كُتب أو منحوتات إلخ، وقد اتخذت الميثولوجيا مساحةً مُهمةً في حيِّز العقل الإنساني منذ فجر تاريخه، ولهذا ينطلق المفكر عبد الله أوجلان في مشروعه الفكري من التناول الميثولوجي، حيث ينتصر للميثولوجيا بعد الحَطِّ من شأنها من جانب الأسلوب العلمي والديني، ولهذا يدعو لـ “رد الاعتبار” للميثولوجيا باعتبارها شكلاً للمعنى والذهن الذي ما للجنس البشري غِنَى عنه، ومع تجذُّرِ دَور الميثولوجيا كشاهدٍ على سيرورة التاريخ الإنساني، تبقى الحياة هي هدفها الأول من خلال ما ترصده من مظاهر وطرائق للعيش، وما تقدّمه من دليلٍ للخبرة الإنسانية تُعِينَ الإنسان على المقارنةِ بين عصور الازدهار الأولى التي تكرَّسَت فيها القيم الإنسانية وما آلت إليه في ظل الخلل القيمي الذي كرَّسته المدنية والحداثةُ الرأسمالية.
ولعلَّ في ذلك ما يُفسر – ولو جزئياً – الرَّفض القاطِع للمفكرين الرأسماليين والقوميين، وحتى قوى الإسلام السياسي، لمشروع “الأمة الديمقراطية” الذي يقدمه المفكر عبد الله أوجلان، كونَه يضرب الأساس الجذري الذي قامت عليه أطروحاتهم الرأسمالية.
ولكونِها، بجانب الدين والفلسفة، وقفت تاريخياً بالمرصاد أمام تَغَوُّلِ الرأسمالية من خلال عناصرها المختلفة من المضاربين والمرابين، فقد أُسْقِطَت الميثولوجيا في حالة يُرثَى لها من جانب قوى الرأسمالية المُهَيمنة بأساليبها العلمية “التجريبية”. ولهذا، يفترض أن تقف مُهمةُ إعادة النظر في مكانةِ الميثولوجيا في مقدمة أولويات العقل الإنساني إذا أراد العودة إلى حالته الطبيعية ونفض غبار الرأسمالية المتوحشة، كونها – أي الميثولوجيا – تمثّل الذاكرة الأقدم لواقع الإنسان الأول وحامل مضامين “أساطير الأولين”.