ما زالت وسائل الإعلام تتابع بشيء من التضخيم والتهويل الأخبار المتعلقة بتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، بعد قطيعة واحتراب، مباشر وبالوكالة، استمر لأكثر من عقد من الزمن، راح ضحيته حسب أرقام متداولة المليون إنسان، هاجر أو تهجّر من سوريا ما يقارب ثمانية ملايين إنسان هجرة خارجية، وهناك حديث عن أكثر من عشرة مليون مهاجر أو مُهجّر في الداخل.
حقيقةً، إذا ما عدنا بالذاكرة إلى بدايات هذه الأحداث، اللغة التي تحكمت بالخطاب السياسي لمختلف الأطراف، التصعيد هنا، المداورة هناك، المهادنة حيناً والمباغتة أحياناً، السيطرة على الأحياء والعشوائيات وطرد مؤسسات النظام منها (وهنا المؤسسات قد تكون مركز جباية الكهرباء أو المياه مع موظفيها البائسين) أو في أعتى الحالات مخفر شرطة يناوب فيها شرطيان لا يتدبران قوت يومهما وهم في أكثر مؤسسات النظام فساداً، ثم القصف بالبراميل وتحرير تلك العشوائيات من أهلها وممن دخلها (محرراً)، وضع الناس في الأقفاص، انتشار لغة التكفير، ارتفاع وتيرة التخوين وربط كل ما يحدث بمؤامرة كونية، وكل ما اعترى هذا العقد من الزمان من تكفير وتخوين وتقتيل وتشريد وتدمير، ولغة خطاب معادية لم يكن أشد المتفائلين يتوقع ولو في خياله أن يأتي يوم ويستطيع استيعاب هذا الخطاب، ومرابطو تلك الخنادق أن يتفقوا على فكرة أو موقف.
عقد من السنوات مضى، تدخلت كل دول الجوار والقريب والبعيد في سوريا، كل منهم ساهم بشكلٍ أو بآخر في سفك الدم السوري من أقصى غربه إلى أقصى شرقه ومن أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال، ولكل من هذه الدول أهداف وغايات مختلفة تماماً عن بعضها البعض، ومختلفة تماماً عن طموحات السوريين الفقراء الباحثين عن لقمة عيش كريمة، كما أن أجنداتهم كانت مختلفة حتى عن أجندة الفصائل التي قبلت على نفسها الارتزاق معتقدةً أن التمويل الخارجي هو أقصر الطرق إلى الحرية والكرامة.
في هذه السنوات، التي عجزت فيها كل الأطراف من أن تجد ولو موقفاً إنسانيا مشتركاً ليكون بارقة أمل لتلاقٍ سوري سوري مُحتمل، بالمثل كان النظام التركي وبصوت رئيسه يزاود على السوريين في إنه لا ولن يقبل في أي يوم من الأيام التصالح مع النظام.
في كل هذه التفاصيل كانت الإدارة الذاتية تجمل شتات السوريين، عربهم وكردهم، مسلميهم ومسيحييهم تحت مظلة وطن يتسع للجميع، وفي كل التفاصيل التي مرت كنا نعلم يقيناً أنه سيأتي يوم على الرئيس التركي وهو يضع كل الفصائل التي امتهنت الارتزاق على بابه ليقدمها عربون اعتذار لدمشق وثمناً للمصالحة، لا لشيء، فقط للقضاء على مشروع الإدارة الذاتية التي تشكل حقيقة خطراً على الدولة القومية.
في المشهد الأخير لمسرحية الخاسرين، كل المصالحات لن يكون بمقدورها من بث الحياة في شرايين أنظمة أكل عليها الزمن وشرب.
الغد القادم هو للشعوب، للديمقراطية، للمرأة الحرة، وكل ما عدا ذلك ما هي إلا محاولات بائسة لكي تدب الروح في جسد ميت.