سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المريض التركي الذي أطفأ مصباحاً حضاريّاً

فاروق يوسف –

الدولة العلمانية لا يناسبها بقاء الأثر التاريخي في حدود غرضه الاستعمالي السابق، كنيسة ثم مسجداً، كان ذلك حلاً يناسب ذلك الأثر المعماري الفريد من نوعه الذي صار مُلك البشرية كلها بعد أن ألقت منظمة اليونسكو بظلالها عليه باعتباره جزءاً من إسطنبول القديمة. كان الإجراء الذي أتخذه مؤسس تركيا الحديثة محاولة لإفراغ المبنى الجميل من محتواه الديني، فذلك المحتوى لم يكن ضرورياً في دولة علمانية مقابل ضرورة ما يمثله متحف آيا صوفيا من جاذبية سياحية تنعكس إيجاباً على الاقتصاد التركي.
عملياً فإن إسطنبول لا تحتاج إلى المزيد من دور العبادة ولكنها كانت ولا تزال في حاجة إلى ما يصلها بالإنسانية عبر أثر فني مدهش يشكل معلماً سياحياً إضافة إلى قيمته التاريخية، لذلك فإن إصرار حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان على تحويل متحف آيا صوفيا من متحف إلى مسجد إنما ينطوي على ضربة سلبية في اتجاهات متعددة. تلك محاولة تعبر عن ضيق أفق وانغلاق وتمييز في التعامل مع التاريخ كما أن الأضرار الاقتصادية المترتبة عليها ستكون واضحة من خلال فقدان إسطنبول لجزء من جاذبيتها السياحية وأخيراً فإنها ستشكل إشارة ضارة بمستقبل الرغبة التركية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من خلال نقضها لقيم التسامح.
كان آيا صوفيا أثراً يعبّر عن الجمال المروض من خلال نأيه عن الصدام الديني الذي يُفترض أن البشرية قد تجاوزته، فكونه مبنى أثرياً يزيل عنه صفة المكان المتنازع عليه تاريخياً بين أتباع الديانتين المسيحية والإسلام، تلك فكرة أطفأت الكثير من الحرائق المحتملة، أما وقد تحوّل آيا صوفيا إلى مسجد بقرار من المحكمة فإن ذلك يعد نوعاً من العنصرية الدينية التي ستثير من حولها الكثير من الغبار من غير أن تنفع في شيء.
احتجاجات المنظمات الثقافية الدولية وعدد من الدول الأوروبية على تلك الخطوة لا تصدر عن نزعة دينية تذكيراً بالأصل المسيحي البيزنطي للمبنى التاريخي، إنما تعبّر عن حساسية حضارية تنأى بنفسها عن الارتهان لماضي الصراعات الدينية وهو ما يصب في مصلحة تركيا أولاً.
غير أن ذلك ما لا يرغب في فهمه الرئيس التركي بنزعته الشوفينية التي تدفعه إلى خلط السياسة بالدين. فتكون النتيجة استعمال الدين لأغراض سياسية، وكما هو واضح فإن لعبة أردوغان في الضغط على أوروبا لا تقف عند حد بعينه من الابتزاز، غير أن تلك اللعبة تتحول بعض الأحيان إلى حقل ألغام سيكون على أردوغان أن يمشي فيه وحده من أجل شراء الرضا الأوروبي من جديد.
لم تكن الاحتجاجات موجهة ضد الإسلام ديناً أو طقس عبادة بدليل أن أحداً لم يكن يعترض على الاستعراضات الدينية التي كان آيا صوفيا يشهدها في السابق من نوع رفع الأذان داخله أو إقامة صلاة جماعة فيه من وقت إلى آخر، كان كل شيء مضبوطاً في إطار الحماية الدولية للمبنى التاريخي التي تتعهد بها المنظمات الثقافية الدولية باعتباره أثراً هو ملك البشرية جمعاء.
اليوم سيكون الوضع مختلفاً، فالمبنى سيخرج من الدائرة التي كان من خلالها يعتبر معلماً ثقافياً وسياحياً ليكون مجرد مكان يقيم فيه المسلمون صلواتهم، جامع آخر يُضاف إلى سلسلة الجوامع التي تكتظ بها عاصمة الخلافة العثمانية، وهو ما يفتح الباب أمام المتطرفين للعودة إلى النزاع حول عائدية ذلك المبنى الدينية.
نزاع ليس ضرورياً فهو لا يفضي إلى شيء نافع بقدر ما يؤجج نار خلاف هو في حقيقته جزء من سوء الفهم الذي تم تجاوزه قبل أكثر من ثمانين سنة بفكرة جعلها متحفاً، تلك الفكرة التي نأت الخلاف حتى الآن، وسيذكر التاريخ أنه كان هناك ظلامياً اسمه أردوغان قد أطفأ مصابيح تلك الفكرة.