سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المجبر العربي بين الطبّ والعُرف..

تقرير/ غزال العمر –

روناهي/ جل آغاـ ما كان من بعض الناس الذين يملكون حب المساعدة وتقديمها للآخرين إلا أن امتهنوا مِهَنَ الأجداد التي لا تزال تلقى رواجاً شعبياً واسعاً؛ مواريث تقليدية متجذرة في عمق التاريخ لم تستطع رياح التطور والتقدم مسحها من عقولٍ آمنت بتلك المهن وأصحابها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل نحتاج هذه المهن في زمانٍ تقدم فيه الطب واحتل فيه العلم الصدارة في كل المجالات؟
مهنٌ فرضتها الحاجة منذ أبعد الأزمان؛ فنتيجةً للاحتلال المتواصل هناك ضحايا بشرية دائماً فمنهم المكسور والمطعون، ومنهم من خالط لحمه الرصاص والإمكانات قليلة والوسائل بسيطة والطبابة شبه معدومة، وكذلك نتيجة البعد الجغرافي لبعض الأماكن في البادية والصحراء فوجدت هذه المهن لقضاء حاجة الناس.
خمسون عاماً وهو يمارس مهنته

الحاج إبراهيم الحسن ذو الثمانين عاماً يعمل بالتجبير منذ أكثر من خمسين سنة من قرية الظاهرية في ريف جل آغا، يقصده القاصي والداني، البعيد والقريب، الغني والفقير؛ وذلك لحسن عمله وإتقانه بشكل جيد فأصبح له اسم مشهور في الأوساط، فالحاج إبراهيم لا يتحدث عن نجاحه وإنما ترك الناس يتحدثون عنه؛ فكم من فقير ساعده وذهب إليه قاصداً عمل الخير دون أي أجر أو مقابل، ليحدثنا عن تجربته قائلاً: “أعمل منذ خمسين عاماً في هذه المهنة لا يثنيني برد الشتاء ولا حر الصيف عن تقديم يد العون للناس ولا تعب السنين”.
أول تجربة تجبير له كانت لنعجته
تابع الحسن حديثه لصحيفتنا “روناهي” عن فكرة تعلمه للتجبير، حيث قال بأنه اشترى نعجة وحيدةً لم يملك غيرها، دفع الغالي والنفيس لشرائها، وما إن دفع للتاجر ثمنها (٢٥ ليرة سورية والتي كانت تعد ثروة آنذاك) حتى كُسرت رجلها؛ فحزن أشد الحزن وفكر في تجبيرها، وحاول إلى أن نجح في ذلك، ومن يومها ذاع صيته بين القُرى وعرف الحج إبراهيم بـ “المجبر”.
مهنة متوارثة في عائلته
امتهن هذه المهنة التي كانت جدته تعمل بها فلطالما لفتت نظره بعملها المتقن الجميل، فالأطباء لم يكونوا بهذا العدد، والوعي لم يكن منتشراً بتلك الحقبة من الزمن بحسب تعبيره.
أما عن أول تجربة تجبير بشري قال: “كانت لرجل كبير بالسن وكانت جدتي قد كبرت، ولم تعد تقوى على مزاولة مهنتها، والرجل متألم جداً فقررت أن أساعده، حيث أرشدتني جدتي ماذا سأفعل، وبالفعل ذهبت مع الرجل لبيته لأنه لا يجوز أن يتحرك عند عملية التجبير، قمت بتثبيت رجله ومعرفة مكان الكسر، وثبتته بقطعتين خشبيتين ووضعت البيض والطحين على قطعة القماش البيضاء، وقمت بوضع ثقل وهو عبارة عن كيس من الرمل لكي لا يستطيع تحريك رجله. هذا وقد نصحته بأكل البيض والحليب لكي يكلس العظم مع شوربة العظام لما لها من فائدة أيضاً، وبالفعل اهتممت بهذا الرجل جداً وتابعت وضعه إلى أن تعافى تماماً”.
وتابع الحج إبراهيم قائلاً: “لا تتخيلون فرحتي عندما رأيت هذا الرجل يمشي ثانيةً”.
اعتذاره من المريض عند الحاجة الطبية
أما عن تطور مهنته فقد قال: “استعنت بالتصوير مع تقدم العلم وتطوره، وأعمل على أساسها في تشخيص الحالة وكيفية التعامل معها”، وأضاف: “أحياناً أعتذر من صاحب الحالة بعد تطور الطب لأنه كما يقال “رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه “، مردفاً بأنه أحياناً يكون العظم مفتتاً أو ملتهباً أو في حالة نزيف أو كسر الموت كما يقال طبياً للمسنين، وهنا يكون المفصل قد تآكل وبحاجة لمفصل، وهذا يصعب على التجبير العربي، بحسب الحسن.
وتابع: “حيث أنني في هذه الحالة سأضر الشخص ولا أنفعه رغم أن المرضى يصرون على تدخلي لكني أرفض لأني لا أعرف كيف يُرد العظم لمكانه في هذه الحالة”.
ينصح بالطبيب.. ولا يتطفل على الطب
كما وينصحهم كي يقصدوا عيادة الطبيب المختص، معتبراً تدخله تطفلاً على الطب وتدخلاً ربما يضر المريض ويؤدي إلى بتر طرفه نتيجة الخطأ بالتعامل مع هذه الكسور، ونوه الحسن بالقول: “فمساعدتي تقتصر على الكسر الواضح والشعر والرضوض واللصقات الطبية”.
الابن يمشي على خُطا الأب
هذا ويمارس الابن “محمد إبراهيم الحسن” هو الآخر هذه المهنة الإنسانية، حيث يقول بهذا الخصوص: “أعمل في هذه المهنة منذ ثلاثين عاماً تعلمت على يد والدي ولا أتقاضى أجراً مقابل ذلك”.
أما عن حالات التهاب العصب فقد قال: “يجري تشخيصها عبر الصورة؛ فأقوم بصنع خلطة دوائية من العسل وحبة البركة و”إلية الخاروف” أسحقها وأخلطها مع بعضها وأضعها على المكان المصاب حتى يشفى العصب”.
معتقدات المجبر الخاطئة
 أما عن الصعوبات التي تواجههم في عملهم فقد تحدث محمد الحسن عن عدم التزام المرضى أحياناً بتوصياته، وذكر قائلاً: “حيث يضع بعضهم عطراً؛ مما يتسبب بالورم فيخاف المريض، مع أنني أؤكد عليه بألا يستعمل العطر أو حتى يشمه وذلك  لحساسية الكسر، وأيضاً يجب تناول الأطعمة التي تقوي المناعة لديه والابتعاد عن المأكولات التي لا تنفع كسره، حيث أن جبر الكسر يستغرق يوماً لكل سنة، فإن كان عمر المكسور عشر سنوات فإن كسره يجبر في عشر أيام”.
رأي الأطباء بين الرفض والتأييد لعمل المجبر
 كانت السيارات تقصد هذا الرجل “المجبر” من كل حدب وصوب؛ فكان لنا تساؤلاتنا التي طرحناها على نخبة من أطباء العظمية حول الكسور وجراحتها، فقال أحد الأطباء: “عندما تكون الخبرة موجودة بشكل واعٍ وكافٍ ولا يتدخل بعمل الطبيب فهو عمل بناء”.
وأكد الأطباء على نقطة مهمة بأن “الكسر حساس وهذه أرواح بشر فكم من مجبر عربي أتلف عصباً بضغطه عليه أو مزق أوعية دموية لا يجوز الضغط عليها مما فاقم الحالات وزادها سوءاً لتتدخل الجراحة وربما تنتهي بالبتر وهذا لا يجوز” بحسب قولهم.
أما فيما إذا كان العطر سبباً في ورم الإصابة؟ فقد أوضحوا بأن “هذه خرافة لا أساس لها من الصحة والورم ناتج عن تجبير خاطئ”.
“الكسر لا يحتمل الخطأ”
هذا لا يعني بأن الأطباء ينكرون بشكل قطعي مهنة المجبر لكن أشار البعض منهم بأن “الكسر لا يحتمل الخطأ، فكم من مريض يعاني أكثر من كسر بنفس المكان واستعانوا هم كأطباء ببعضهم البعض وربما احتاجوا لمشفى ويأتي أهل المريض ليقولوا لهم أخذناه للمجبر ولم يتحسن، بالتأكيد لن يتحسن لأن لكل كسر طريقة يعامل بها ويختلف من شخص لآخر حسب رأي الطب والعلم”، وقالوا أيضاً: “لذا ننصح وقبل كل شيء بالتصوير الشعاعي ومراجعة الطبيب لأن المريض بغنى عن اختلاطات تزيد الأمر سوءاً فتزيد فترة العلاج زمنياً ومادياً”.
“التجبير عرف بعيد عن الطب”!
 ومن الأطباء من جزم بأن “التجبير العربي عبارة عن عُرف سائد وتقليد قديم متعارف عليه شعبياً ولا يستند لأساس علمي، فهو عادة خاطئة والمجبر لا يملك الكفاءة العلمية المطلوبة لقراءة وتحليل أبعاد صورة شعاعية يشخص من خلالها الكسر وماذا يحتاج وكيف يُرد ويثبت”. وأضاف أحد الأطباء: “طبيب العظمية يختص ست سنوات ويتدرب لفترة لا تقل عن أربع سنوات ويستعين بالكتب والمراجع وبزملائه في بعض الحالات وربما يعجز عن بعض الحالات فما بالك بالمجبر العربي”.
المجبر لا يحاسب إذا أخطأ
أما فيما إذا كان الكسر مرتبطاً بالعمر فأجمعوا بأن “فترة الجبر تختلف من شخص لآخر حسب التزامه بتوصيات الطبيب من حيث الدواء والغذاء”.
وأكد أحد الأطباء بأن ٩٠ % من المرضى يقصدون المجبر العربي دون تفكير بعواقب الأمور وما يترتب عليها من نتائج والمجبر لا يحاسب حين يخطئ لأن الناس يذهبون إليه طوعاً”.
بالرغم من أن المجبر يعمل كل ما بوسعه ومن دافع إنساني لمساعدة الناس، ولكن هناك من  يقول بأنه معتقد قبلي راسخ في عقول الناس سببه الحالة الاقتصادية التي ترافقهم في حياتهم، لكن العلم أفضل من العرف فمهما كانت لهذه المهنة من شعبية يجب أن يكون هناك وعي كافٍ لخطورة احتمال وقوع أخطاء فيها أيضاً.