يعتبر كتاب “الكوميديا الإلهية” للشاعر والكاتب الإيطالي “دانتي أليغيري” من أعظم كتب العصور الوسطى في امتدادها، وتأثيرها، واتساع مداها ،لأنها جمعت بين الفلسفة المدرسية لمفكري العصور الوسطى، وثقافة اليونان، والرومان القديمة بحيث التقت فوق صفحاتها أسماء أرسطو، وفيرجيل، وأوفيد، وشيشرون مع أسماء بيثيوس وتوما الأكويني وفرنسيس الأسيزي، الأمر الذي جعلها مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنية التشكيلية، والموسيقية، والسينمائية.
من فلورنسا كانت البداية
ولِد الشاعر الإيطالي دانتي أليغيري في فلورنسا عام 1265ويعرف باسم دانتي، تعتبر ملحمته الشعرية الكوميديا الإلهية البيان الأدبي الأعظم الذي أنتجته أوروبا أثناء العصور الوسطى، عرف دانتي في الأدب الإيطالي بالشاعر الأعلى، وسمي أيضاً بأبي اللغة الإيطالية، وقد كان دانتي عضواً نشطا في الحياة السياسية، والعسكرية لفلورنسا حيث تقلد مناصب مهمة في حكومة فلورنسا خلال التسعينيات من القرن الرابع عشر، ونفي بسبب مواقفه السياسية من مجموعة الغويلف التي سيطرت على فلورنسا عام 1301وحكم عليه بالموت في حال عودته إلى فلورنسا، لذلك عاش ما تبقى من حياته في رافينا، ودفن فيها، ويعد دانتي أليغيري أحد العظام في التاريخ، ومن الذين وضعوا في مطلع عصر النهضة الأوروبية أساس الدولة المدنية الحديثة؛ التي تفصل بين سلطة الكنيسة، وسلطة السياسة، ويقوم فيها الحكام بالحكم وفق القانون دون وساطة رجال الدين، نال دانتي غضب الباباوات لأنه قدم مصلحة الوطن على مصلحة الأحزاب المتصارعة في مجالات السياسة، والدين، والتعليم، وتأليب الجماهير ضد السلطة دفاعاً عن العدالة، والحرية.
بين الجحيم، والمطهر، والفردوس
الكوميدية الإلهية قصيدة ملحمية تتألف من 14 ألف بيت شعري: تصف رحلة دانتي بين الجحيم، والمُطهر، والفردوس، وتضم 100 أنشودة 34 للجحيم و33 لكل من المطهر، والفردوس، ورحلة دانتي استغرقت أسبوع، يومان للجحيم، وأربعة في المطهر، ويوم في الفردوس، وسبب التسمية بالكوميديا، فلأنها تبدأ بما يزعج، وتنتهي بما يفرح على النقيض من التراجيدية التي تبدأ بما ترتاح إليه النفس البشرية ثم تنتهي بالمأساة، أما وصفها بالإلهية لأن بطل الرواية دانتي يبتغي الصعود في السماوات، والعلا لمشاهدة الأنوار الساطعة ببريق نور الرب، وفعلا يبشر رفيق رحلته الشاعر الروماني فيرجيل بأنه رأى الله في السموات العلا في أنشودة الفردوس.
تبدأ الرحلة بمرحلة الجحيم حيث رأى دانتي مكتوباً على بابها عبارة “الطريق إلى حيث القوم المجرمين” وكذلك عبارة ثانية “فيا أيها الداخلون من بابي أتركوا كل أمل قبل دخولكم” ويقول: يا للعجب! أرى في الجحيم أناساً بدون خطايا تبين أنهم لم يصلحوا، ويصف كيف يجري تعذيب المترددين، الذين لم ينضموا إلى حزب من الأحزاب المتصارعة! إذ يظهر الناس عراة يلسعهم النحل، والذباب، وتسيل من عيونهم الدموع الممزوجة بالدم، ويصور أيضاً مجموعة من المشاهد المهولة، ومن ثم يباشر الإعداد، وتهيئة القارئ كي يدخل المُطهر، وفي المطهر وجد دانتي الموتى يبحثون عن الغفران من خطاياهم في الأرض عكس الجحيم الذي فيه المعاناة، والشقاء، وقد اعتبر دانتي المطهر جسراً إلى الفردوس، أو فلتراً لترشيح الأفاقين، والمذنبين من خطاياهم، ويرى دانتي في المطهر أن في مقدور الإنسان بجهده، وآلامه، وأمله أن يُطهر نفسه من الخطايا، ويصل النعيم، وفي الفردوس يمتاز عمل دانتي بالروعة، والغموض، وهي المرحلة الأخيرة من الملحمة، وفيها يظهر المتنعمين بالفردوس كأنهم جميعا يشكلون وردة العرش، ويحتلون في مدرج واسع جداً أماكن كبيرة تتناسب مع أعمالهم البطولية، وأمجادهم إلى جانب ذلك يستطيعون الظهور في المدن السماوية في القمر، والمريخ، وغيرها من الكواكب.