كاتبة وناقدة في مجال القصة والنص الأدبي. حرفها يدهش القراء ويربك بعض الكُتّاب ويؤرقهم. سيدة تعانق عرش الأدب بثقافتها العالية وطرحها النقدي الثقافي، تونسية المولد شرقية الهوى، درست وترعرعت في مدينة مارت بتونس، ثم انتقلت إلى فرنسا عام 1997 لتكمل دراساتها وتحصل على شهادة الماستر في اللغة العربية، وشهادات أخرى في تربية ورياض الاطفال، عملت في تونس وتعمل الآن في فرنسا في مجال التدريس، حازت على جوائز عدة حيث تقيم وجوائز في مسقط رأسها تونس، لها أعمال أدبية عدة مطبوعة منها مجموعة قصص قصيرة جداً بعنوان “رقصة النار، ومجموعة قصص سردية بعنوان صمت النواقيس، رواية بعنوان “ميلانين”، وأعمال تحت الطبع، بالإضافة إلى أعمال أدبية وثقافية مشتركة. وهي تعرف بنفسها بالقول: ” فتحية دبش “كاتبة” تحاول أن تخترق الموت بالكتابة وتحاول أن تخترق الحياة أيضاً بالكتابة. أقدم نفسي وهذا صعب ولكنني أقول إنني مجرد فانوس يحاول أن يضيء عتمة الإنسان وإنْ احترق”. ولمعرفة المزيد عن أعمالها ومساهماتها ورأيها في الحراك الأدبي كان لنا الحوار التالي معها:
ـ ماهي المؤثرات الثقافية والفكرية التي ساهمت في تشكيل الوجدان الإبداعي لدى الكاتبة فتحية دبش؟
لقد تشكل وجداني الفكري والثقافي والأدبي من تراكمات عديدة أهمها شغفي بالفلسفة عموما وبفلسفة الأديان والتيارات الأدبية والفكرية قديمها وحديثها. كانت قراءاتي ولا تزال متنوعة جداً وتمس العديد من الميادين حتى تلك التي لا تمت إلى اهتماماتي العملية والمهنية بصلة كبيرة. ولعل هذا الشغف باكتشاف التفاصيل والسفر ساهم هو الآخر في تشكيل هويتي الفكرية والثقافية والأدبية.
ـ لكل كاتب أيديولوجية خاصة تهيمن على كل إبداعاته.ماهي أيديولوجية الكاتبة فتحية دبش؟
لكل كاتب مشروع فكري وأدبي وثقافي يتشكل انطلاقا من موضعه ومن تمثلات العالم لديه. لكن هذا المشروع حتى وإن كان على صلة بأيديولوجيا معينة فهولا يخضع إليها بالكامل وإلا صار الكاتب بوق جماعة فكرية معينة. لذلك ليس لي ايديولوجيا بالمعنى الحرفي للكلمة وانما لي توجهات فكرية تجعلني اختار مواضيعي وطرائق تقديمها للقارئ وهذه التوجهات هي بالأساس محورها الإنسان على اختلاف حالاته وتجلياته. وكم هي عديدة مشاغل الإنسان.
ـ ما رأيك في الكتابات النسوية؛وهل تمكنت المرأة الكاتبة من فرض بصمتها الإبداعية في الساحة الأدبية؟
الكتابات النسوية العربية محترمة جدا نظراً لواقع المرأة المليء بالمصاعب والموانع. ورغم ذلك لا يجب عليها أن تستكين بل عليها أن تخوض معركتها حتى النهاية ومعركتها أولاً هي معركتها ضد الرقابة الذاتية التي تمارسها هي على نفسها
ـ لكل كاتب مقومات نجاح في كل زمان ومكان. ماهي المقومات التي تساعد على نجاح المبدع والكاتب في ظلهيمنة وسائل التواصل على حياة الجميع؟
أعتقد أن مقومات النجاح هي أولاً وأخيراً الإخلاص للكتابة. فالكاتب الشغوف سيصل حرفه ومعناه الى كل قارئ حتى وأن هيمنت اليوم وسائل التواصل على الكتاب الورقي. بل أعتقد أن مقومات النجاح اليوم أكثر أهمية من الأمس. ففي ظل هذا التعدد والتنوع صار لزاماً على الكاتب أن يقترب أكثر من مشاغل الإنسان/القارئ . القارئ اليوم على مسافة قصيرة من الكاتب تخولها له وسائل التواصل وبالتالي هناك ديناميكية أخرى تضاف لمقومات النجاح وهي هذا التقاطع بين الكاتب والقارئ.
ـ لكل كاتب قضية يحاول الوصول بها إلى وجدان وعقل القارئ. ماهي قضية فتحية دبش الأولى؟
ربما لأنني اتحول كثيراً في المكان وفي الزمان وهذا يمنحني عيناً اضافية للنظر في الإنسان بقضاياه وتساؤلاته لذلك قضيتي هي الإنسان بعامة. قضيتي هي لماذا كل هذا العنف المسلط على الإنسان وخاصة عندما يكون مختلفاً في النوع أو اللون أو العرق أو الثقافة والدين؛ ولماذا كل هذا الدم الذي لم ينضب يوماً؟ أعرف جيداً انني لن أقوم بتغيير الواقع ولكنني أطمح الى تثويره وأطمح إلى الإنسان الكوني وغد أفضل. لذلك كتبت عن المرأة وقضاياها وعن المهاجرين وقضاياهم وعن الأطفال والمشردين ولا أدري أن كان الوقت سيسعفني لأكتب أكثر.
ـ ماهي أبرز المعوقات التي تواجه الكتابة الإبداعية اليومفي ظل الانشغال بهموم الحياة اليومية؟
عن تجربة أعتقد أن الكتابة كالحب تحتاج إلى الحرية. الحرية من كل ارتباط لا يتحكم فيه الكاتب. تحتاج الكتابة إلى أن نطيع شيطانها وملائكتها. لكن وضع الكاتب العربي خاصة لا يسمح بهذا التفرغ ولا يسمح أيضاً بأن نمنح ذواتنا كاملة للكتابة وخاصة عندما يكون الكاتب أنثى/امرأة زوجة وأماً. لذلك أعتقد أن الكاتب الذكي عليه أن يورط محيطه أيضاً بغواية الكتابة حتى يتمكن من الاختلاء بقلمه متى استطاع دون أن يهمل واجباته الأخرى التي لا تقل أهمية عن واجب الكتابة.
ـ انطلاقتك في مجال الأدب جاءت متأخرة نوعاً ما وخاصة إنكِ ولدتي شبه كاتبة وهذا بشهادة أحد مدرسيك الأكفّاء.لو تحدثينا عن هذا؟
نعم أنطلقت متأخرة رغم انني أكتب منذ الصغر. انقطعت عن اللغة العربية والكتابة والحضور في الملتقيات لمدة عشرين عاماً. انهمكت في حياتي الجديدة واغتربت لغوياً وجغرافياً ومهنياً وكان خياري أن أمنح حياتي الجديدة كل شغفي خاصة وانني صرت زوجة وأمّا. والطفل كتاب نعرف متى نخط الحرف الأول منه ولكننا نظل نكتبه إلى أجل غير مسمى. لكنني الآن وقد كبر اطفالي عدت الى الكتابة اكثر نضجا وأكثر شغفا وأكثر إصراراً..
ـ انطلقت مسيرتكِ الأدبية مع أول إصدار لمجوعتك القصصية “رقصة النار”. هي مجموعة تحوي 54 قصة قصيرة جداً، لو تحدثينا قليلاً عن هذه المجموعة؟
هي مجموعة “قصص قصيرة جداً” صدرت بتونس في 2017 ذات ثيمات اجتماعية كالعنف ضد المرأة ومخلفات الحروب والتشرد. مجموعة أفخر بها لأنها تنتمي إلى نوع من الكتابة القلقة وهي نوع القصة القصيرة جداً بكل ما لهذا النوع من الكتابة من صعوبات ومزايا.
ـ ما الذي يروقك في القصة القصيرةجداً. وما الذي أضافته في الساحة الإبداعية، وهل يمكن أن نعتبرها وليدة عصر متسارع شمل حتى أزمانالكتابة القراءة؟
تروقني القصة القصيرة جداًـ لأنها كتابة تناصف بين الكاتب والقارئ بشكل ما. أعتقد إنها الكتابة التي أعادت إلى القارئ عرشه بأن جعلته شريكاً حقيقياً لا يكتفي بالقراءة والمرور. فهي تمنحه القليل ليمنحها الكثير وهذا في حد ذاته إضافة هامة. ولكنني لا أعتبرها وليدة عصر متسارع. فهي قديمة متجددة لها جذور في الأدب العربي القديم على أشكال مختلفة. ولكنني أعتقد انها تستجيب إلى القارئ اليوم ليس لأنه قارئ كسول كما يرى البعض ولكن لأنه قارئ عارف ويبحث لنفسه عن مكان في العملية الإبداعية.
ـ نتوقف عند عنوان مجموعتك الثانية “صمت النواقيس” لِم وقع اختيارك على هذا المسمى؟
صمت النواقيس هي مجموعة سردية لا تخضع في مجملها إلى التجنيس حتى وإن كنت عرّفتها بكونها بين القص والخاطر. هي مجموعة أردت فيها اختراق الأجناس الأدبية فكانت تخضع لمنطق النص أكثر من خضوعها لمنطق القص. تعرضت فيها إلى قضايا كبرى كالاغتصاب وزنا المحارم والسجن السياسي والحروب. هي قضايا الراهن ولكنني كتبتها بجرأة أحياناً. وعنوانها هو عنوان أحد نصوصها ويتحدث عن البيدوفيليا والتحرش الجنسي بالأطفال.
ـ يجمع المتابعون للشأن الأدبي في تونس اليوم. إن حجم مساهمة المرأة في الأدب تنظيراً وإبداعاً في شتى المجالات
أكبر بكثير من مساهمة الرجل. وهو ما يدل على أن المرأة عظيم إبداعها، ما رأيك بهذا القول؟
لا بد للكاتب من معرفة الأجناس الأدبية واشتراطاتها الفنية. لا يكون الاختراق إلا بعد معرفة ولا يكون إلا وفق رؤية ذاتية ناضجة. وأعتقد أن الكاتب اليوم أمام تحديات القارئ العليم/الخبير. والقارئ اليوم بنظري هو قارئ فكرة ويحتاج أن يكون الكاتب على دراية بانتظارات القارئ. والاختراق تجريب يخضع إلى فلسفة الكاتب الخاصة. ففي صمت النواقيس مثلا سعيت الى الاختراق الفني ولكنني اعطيت الفكرة حيزها الكبير حتى أنني كنت أطلق على بعض الكتابات أدب الفكرة. ويحتاج الأدب اليوم أن يخرج من حالة التحنيط إلى براح المغامرة الإبداعية.
ـ على الغلاف الأخير لرواية ميلانين نص قصير/ لم يقتلنيإلا وطن سكنته فخان. وأمل طاردته فنجا مني. واسم حملته ولم يكن لي/ انطلاقاً من هذه اللمحة أدخلينا إلى عوالم الرواية. وما الذي ناقشته عبر خطها السردي. وما هو محمولها الذي أردتِ إيصاله للقارئ؟
ميلانين هي روايتي المنشورة الأولى. هي رواية التجريب أيضاً. تطرح الرواية جملة من القضايا أهمها العنصرية. تلك العنصرية التي يلقاها المهاجرون كما يلقاها ” الأقليات” والسود خاصة. فيها مساءلة للآخر وللأنا عن مفهوم الهوية وبالتالي تطرح تعريفاً جديداً للهوية الجامعة.
ـ هل تعتقد الروائية فتحية دبش أن اللعب على وترالحدث السياسي ضروري في الرواية. أم أنه مجرد نكهة إعلامية. تحقق قراءة أوسع لبعض الروايات. التي يتم فيهاإدخال السياسة لأماكن خاطئة. وما توجهك بهذا الموضوع عموماً؟
لا ينفصل الكاتب عن واقعه. والواقع السياسي خصب جداً لأنه واقع تحكمه الصراعات والتقلبات وعلى الكاتب أن يقتنص منه بذكاء دون أن يتحول الى مؤرخ. كتابة التاريخ ليست مهمة الكاتب ولكن مهمته هي استقراء الحاضر والماضي واستشراف الآتي. خاصة وأن الكاتب العربي بعامة لا يمكنه الكتابة بحياد ولا بحرية.
ـكيف تنظرين إلى الحراك الثقافي بعد الربيع العربي.وكيف أثّر عليك الربيع العربي حتى جاء أغلب نتاجك
بعده؟
الحراك الثقافي بعد الثورات العربية استفاد من التحولات بشكل عام. حتى وأن اختلط الحابل بالنابل إلا إن هذا الاختلاط مؤشر إيجابي. ربما أغوت الحرية المرغوبة الكثير من الكتاب وصار فعل الكتابة اكثر ديمقراطية. وأعتقد إن بعض حرية التعبير اليوم هدية الثورات للقلم. أغلب إنتاجي جاء بعد الثورات بسنوات فعلا دون أن يكون نتيجة لها.
ـ الروائية فتحية دبش واضح تأثرك برواية الطيب صالح ” موسم الهجرة إلى الشمال” هل تأثرت بالأدب السوداني؟
“موسم الهجرة” للطيب صالح و”الياطر” لحنا مينة و”شرق المتوسط” لمنيف هي روايات عربية نفخر بها وتسكنني. تأثري بالطيب صالح وموسم الهجرة له أسبابه. فهي رواية العربي المهاجر ولكنها أيضا وبالتوازي رواية الإنسان الأسود في مجتمع أبيض وهنا مكمن السر. بل انني اقدم معارضة طفيفة في ميلانين لموسم الهجرة إلى الشمال واضع فكرة الآخر في موسم الهجرة قيد السؤال. الأدب السوداني قريب من روحي كثيراً لأنه ادب يستحق الاعتراف به عربياً
ـ شهد العالم العربي ميلاد جيل جديد من الروائيين. هل يمكن اعتبارهم امتداد لروائيي الجيل السابق من حيثالاستلهام وطرائق السرد؟
أعتقد ان الجيل الجديد من الأدباء العرب هو جيل مغاير للجيل السابق حتى وأن حاول الوفاء له. هناك أصوات تطرح قضايا الراهن ولا تخشى المغامرة الأدبية والفكرية والأمثلة كثيرة جداً.
ـ أين موقع الرواية العربية في الأدب العالمي من وجهة نظر الكاتبة فتحية دبش. ولماذا لم ينل روائي عربي حظهمن العالمية منذ جائزة نوبل التي فاز بها المصري نجيبمحفوظ؟
الرواية العربية اليوم تحظى باهتمام في العالم عن طريق بعض الترجمات أو الكتّاب الذين يطرحون نتاجهم بلغة غير العربية وأذكر مثالا الجزائري ياسمينة خضراء وهو كاتب مترجَم الى أكثر من 46لغة وهومن أكثر الأدباء انتشاراً. لكن الرواية العربية تتعثر أحيانا لان الترجمات ليست مناسبة للكم الهائل من الإصدارات. منذ محفوظ تتعثر الرواية العربية في الحصول على نوبل مثلا لأنها رواية مسيّجة.
ـ من سيقرأ مجموعتك ” رقصة النار” سيجد حضوراًقويا للمرأة. فهل تحتاج القصص دائماً لحضورها كي تقولالمختلف في نظرك.. وماذا عن دور الرجل فيها؟
نعم للمرأة حضور قوي في أكواني الإبداعية رغم انني أميل إلى قراءة كتابات الرجال أكثر ولا تفسير لدي الآن. لكن الرجل حاضر بالغياب في مشروعي الأدبي. لأنني مؤمنة بأن أحوال المرأة لا تختلف عن أحوال الرجل فهما ضحيتان للمجتمع الذكوري .