No Result
View All Result
المشاهدات 1
إعداد/ خضر الجاسم –
روناهي/ منبج ـ قصيدة فريدة من نوعها تلك التي تسمى بـ”الدعدية، أو “يتيمة الدهر” إذ كانت القصيدة سبباً في يتم صاحبها، ومن ثم مقتله. إذن نحن أمام قصيدة مشاكسة؛ على الرغم من حلاوة هدوئها، وإحساسها الرقيق. والغريب أنَّ أربعين شاعراً نسبها لنفسه، بعضهم من الشعراء المشهورين، وبعضهم من الشعراء المغمورين، ولكن الرأي الثابت أنَّها لدوقلة المنبجي، ولم تنسب إليه قصيدة أخرى. ومنها:
لهفي على دَعْدٍ وما خُلِقَتْ
إلاّ لِطولِ تلَهُّفي دَعْــدُ
فالوَجْهُ مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌّ
والشَّـــعْرُ مِثْلُ الليلِ مُسْوَدُّ
ضِدَّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنـــا
والضِّدُّ يُظهر حسنه الضِّـدُّ
وقفة أمام صاحب القصيدة:
تعد القصيدة من روائع الشعر العربي؛ وشيخ الكوفيين في النحو العربي العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار؛ هو الذي ثبتها لدوقلة المنبجي؛ وهو رجل ثقة، كبير، له حافظة قوية، وأسلوب في الخطابة لا يضاهيه أحد في ذلك.
القصيدة ساحرة، والشاعر من أصحاب “الواحدة” أي هو ممن نظموا قصيدة واحدة في حياتهم، ولا يعرف له سواها، أي لدوقلة المنبجي؛ وهو الحسين بن محمد المنبجي، وكني بـ “المنبجي” نسبة لمدينة منبج. ودوقلة كان يعد من بين الأوائل؛ الذين لمع ذكرهم. وهو بذلك قد سبق البحتري، وأبا فراس الحمداني، وأغلب الظن، أنَّه عاش في عصر المأمون، وصولاً لعصر المتوكل، إلا أنَّ التاريخ لم يذكر لنا سنة ولادته، ولا تاريخ وفاته، بسبب ضآلة الأخبار الواردة عن شاعرنا، أو من عاصرهم، بحيث يمكن استقراء ذلك؛ بالعودة إلى أولئك الرجال.
مناسبة القصيدة
إن البحث والتعمق؛ للوصول لجواب شافٍ حيال تاريخ القصيدة صعب؛ لكن أغلب الظن أن القصيدة “عباسية”، وحجتنا في ذلك كون هذا العصر؛ قد شهد انفتاحاً كبيراً على مستوى اللغة الشعرية، وبنية الخطاب الشعري. وهذا الأمر لم يكن موجوداً بحال من الأحوال في عصور أخرى؛ بشكل كبير كما هو عليه في هذا العصر. ونذهب للقول: إن ولادتها؛ كانت ما بين عصر هارون الرشيد، وما بين عصر المأمون، حيث ظهر في هذا العصر إطلاق العنان للخيال، والجنوح لفضاءاته، والابتعاد عن الإغراق في الصور الكلاسيكية؛ الشيء الذي نالت فيه هذه الصور حظاً وافراً من الشعر العربي وصولاً لفترة شاعرنا. وكان من نتيجة هذا الأمر؛ خلق وحياكة الأساطير الجديدة؛ استناداً للخيال الشعبي. إذ ظهر في هذا العصر قصص ألف ليلة وليلة، وكتاب الإمتاع والمؤانسة لابن حيان التوحيدي، ورسالة الغفران للمعري؛ لنثبت بشيء من الاستنتاج إن القصيدة ولدت تحت هذه الأجواء المليئة بالغرابة، والبحث عن تساؤلات في منتصف القرن الرابع الهجري، وكتبت بمهارة فائقة، وحس بديع.
لَهْفي علـى دَعْدٍ وما خُلِقَتْ
إلاّ لِطـــــولِ تلَهُّفي دَعْــدُ
بَيْضاءُ قد لبِسَ الأديــمُ أديْـ
ـمَ الحُسْنِ فَهْــوَ لِجِلْدِها جِلْدُ
وَيَزيِنُ فَوْدَيْــها إذا حَسـرَتْ
ضافي الغَـــدائرِ فاحمٌ جَعْدُ
وجبينُها صَلْتٌ وحاجِبُهــــا
شــخْتُ المَخَــطِّ أزَجُّ مُمْــتَدُ
وكَأنَّها وَسْنى إذا نَظَــــرَتْ
أوْ مُدْنَــفٌ لَمَّــا يُفِـــقْ بَعْــدُ
بِفتــورِ عَينٍ ما بِها رَمَــــدٌ
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا العصر؛ قد بزغ فيه أدب المقامات؛ على يد بديع الزمان الهمذاني، وتلميذه الحريري. وهذا العصر جمع بين النثر، والشعر، والشخصيات الوهمية. إلا أنَّ قصيدة دوقلة لم تنج من الوضع، ودكة التشريح من قبل كثير من الشعراء الذين حاولوا بشكل، أو بأخر انتحالها، وإدخال بيتين شعريين إباحيين؛ ليس هذا معرض ذكرهما؛ بسبب خروجهما عن الذوق العام.كما إن سياق القصيدة العام؛ لا يوحي بشكل أو باخر أنهما من القصيدة نفسها، ومن الشاعر نفسه، وأغلب الظن أنهما عائدين؛ من قبل شعراء المجون في تلك الفترة.
تقول الروايات التي أوردها د. “عمر فاروق الطباع” في كتب قصائد العشق والجمال في الصفحة 50 إنه كان لأحد أمراء نجد في العصور القديمة؛ ابنة فائقة الجمال، والذكاء. مبدعة في الشعر اسمها “دعد” تهافت عليها الخطاب، وهي ترفض، وتشترط فيمن يتزوجها أن يصفها بقصيدة تخلدها، وتكون أجمل من شعرها. سار ذكر الأميرة دعد في الآفاق، وتسابق الشعراء في وصفها؛ رغبة في الحظوة، والزواج. ولكنها – لذكائها وثقافتها – تنتقد قصائدهم واحداً بعد واحد، وتُظهر ما فيها من المثالب.
هل بالطُّلول لِسائِلٍ رَدُّ؟
أَمْ هل لها بِتَكَلُّمٍ عَهْـــــــدُ؟
دَرَسَ الجَديدُ جَديدُ مَعْهَدِها
فَكَأنما هي رَيْطَــــةٌ جَــرْدُ
مِن طولِ ما يَبْكي الغَمامُ على
عَرَصَاتِها ويُقَهْقِهُ الرعْـــدُ
وسمع شاعرنا دوقلة المنبجي بالقصة والشرط، وكان قد رأى هذه الأميرة الجميلة. فأبدع قصيدته الشهيرة، وسار إليها يريد أن ينشدها بين يديها. وفي الطريق الصحراوي صاحبه إعرابي، وسامره وسأله عن سبب سفره، فذكره له، وأسمعه القصيدة، فطرب لها الإعرابي، وطلب إعادتها مراراً ودوقلة مسرور من إعجاب الأعرابي بشعره، حتى حفظ الأعرابي القصيدة كاملة. فقتل الإعرابي دوقلة غيلة، وهو نائم. وحثّ الخطا إلى الأميرة دعد، وأنشد بين يديها القصيدة. فطربت لها طرباً شديداً، وطلبت من الإعرابي أن يزيد فيها بيتاً – كي تختبره – فعجز وأصابه العي. وحاورته فأحست أنه كاذب وقاتل، فقالت لحراسها: اقتلوه؛ فإنه قاتل بعلي. ولو كان قائل القصيدة حياً، لتزوجته. فسألها والدها: وكيف عرفتِ أنه سرق القصيدة؟ فقالت: لأنه يقول:
قد كــــان أوْرَقَ وصْلُكُم زَمَناً
فَذَوى الوِصالُ وأوْرَقَ الصَّـدُّ
للـــَّهِ أشْـــواقٌ إذا نَـــزَحَــــتْ
دارٌ بِنـــا، ونَبــا بِكُــــمْ بُعْــــدُ
إِن تُتــهِمــي فَتَهـــامَةٌ وَطــني
أَو تُنــجِدي يكــنِ الهَـــوى نَجدُ
والأعرابي ليس من تهامة ولا في لهجته شيء من هوى نجد. كما أنه عجز عن إضافة بيت واحد. الحقيقة أن امرأة بوصفها أميرة عربية من نجد؛ قادرة على اختيار من تحب لهو شيء عجيب. من كون أن البعض لا زال يرى في شخص المرأة؛ أنها ناقصة في العقل. كيف والمرأة بمثل حدة ذكائها؟ أن تميز صاحب القصيدة؛ من منتحلها. وكيف لها أن تقرر ما تريد من نوع الاختبار؛ التي أعدته للشعراء لاختيار من تحب، كما يحدث في يومنا هذا. لهي أشياء يجب الوقوف عليها؛ عند الحط من شأن المرأة؛ في التاريخ العربي طويلاً.
القصيدة وأسلوبها الفني
شاعرنا يختلف من كونه؛ رسام ناطق، من طراز رفيع. استطاع بحسه المرهف، أن يطأ آفاق وعوالم مجهولة بعيدة، جانحاً إليها، في اختراق اللغة؛ باللفظ الرقيق، والكلام العذب، وسلاسة المخرج، وجزالة المفردات، وحكمة الشعراء الكبار.
وَلَها بَنــــــانٌ لَو أَرَدتَ لَه
عقداً بِكَفِّــكَ أَمكَـنُ العَقــــدُ
فَنهوضُها مَـــثنىً إِذا نَهَـــضتْ
مِــن ثِقلَـــهِ وَقُعودهـــا فَــردُ
وَالســــاقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَـــةٌ
عَبِــلَت فَطَـــوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعــــبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَــــه
حَجـــمً وَلَيــسَ لِرَأسِـــهِ حَـــدُّ
وَمَشَت عَلى قَدمَيــــنِ خُصِّرتـا
وأُلينَتـــا فَتَكــــامَـــــلَ القَـــدُّ
وربما لهذه الجوانب؛ نالت القصيدة حظاً كبيراً عند عدد كبير من النقاد، والشعراء، والمعاصرين، وربما كانت أعقل؛ قصيدة متكاملة من جميع جوانبها، ولهذا ادعى نسبتها أربعون شاعراً.
ومن قال بجاهلية القصيدة كما ذهب لذلك ابن سلام الجمحي، والأصمعي. فهذا رأي مردود، وذلك من كون القصيدة؛ تسير في نسق واحد، وخط واضح. الأمر الذي لم يكن حال الشعر عليه آنذاك موجوداً. حتى في تنوع أنماط وأغراض الشعر الجاهليّ المألوف. فالقصيدة من مطلعها إلى خاتمتها؛ غزلية بالكامل. مع شيء من أبيات قليلة، خرجت إلى الفخر بالذات. وهذا ما يخالف العرف السائد في القصائد الجاهلية؛ من كون القصيدة الجاهلية؛ قد تخرج إلى الهجاء، والفخر، والحماسة، والتشبيب. وظل هذا العرف سائداً في أغلب الشعر العربي؛ إلى حين مجيء عمر بن أبي ربيعة؛ الذي اختص بهذا اللون من الشعر، وأجاد فيه. والقصيدة من البحر الكامل؛ عروضها حذاء فعلن، وضربها مضمر، والقافية متواترة، للتوافق مع اسم حبيبته؛ دعد بوعي منه، أو بلا وعي.
No Result
View All Result