يعدّ الفن التشكيلي الحسّ الثقافي الأجمل الذي يجمع أحيانًا بين الطبيعة والإنسان، وبين الإنسان والماورائيات، حيث يلجأ الفنان التشكيلي إلى رسم لوحات بهدف إيصال رسائل غامضة للبعض ومفهومة للبعض الآخر من خلال لوحاته
الرقة تلك المدينة الواقعة على ضفافِ أجمل وأغزر أنهار سوريا “الفرات” أنجبت عددًا من الفنانين التشكيليين الذين حاولوا إيصال صورة مدينتهم الأم إلى المجتمعات الأخرى، على الرغم من عوائق وظروف ازدهار واندثار عاصرها هذا الفن الجميل في مراحل زمنية عدة, وبعد الحرب التي واجهتها مدينة الرقة ضد مرتزقة داعش لا يزال الفن موجود ويثبت نفسه رغم كل ما جرى.
الفن التشكيلي في الرقة وبداياته
خمسينيات القرن الماضي كانت شاهدة على تطور بطيء شهده الفن التشكيلي في مدينة الرقة، الذي تزامن مع عوائق كان أبرزها عدم وجود مدارس أو مدرسين عريقين مختصين بالفن التشكيلي، إضافةً إلى عدم توفر المواد الأولية، وبذات الوقت لم يلق فنانو الرقة الجدد أي تشجيع من الأهل الذين كانوا يطالبون أبناءهم بالاهتمام بالاختصاصات العلمية، والابتعاد عن الفنون التي اعتبروها مضيعةً للوقت.
شهدت مدينة الرقة في العام 1966 أول معرض مدرسي قُدمت فيه لوحات لفنانين مثل “عبد المحسن الجدوع الذويب” و”سليمان النجم المشرف” وفنانين آخرين تحت إشراف “برنار محفوظ” الذي كان أول مدرس للفنون في الرقة.
ولاحقًا، وفي منتصف الستينات من القرن العشرين، توافد إلى مدينة الرقة اختصاصيون في الفن التشكيلي، أغنوا ثانوياتها وإعدادياتها، لتتشكل معارض فنّية تشكيلية في صالة نقابة معلمي الرقة وصالة المركز الثقافي وصالات المدارس.
وبعد عقدٍ من الزمن استطاع فنانو الرقة تشكيل تجمّع فني حمل اسمهم، وتألف من مجموعة من هواة ودارسي هذا الفن الذي جمعهم حبه، ومنهم “عنايت العطار” و”محمد صفوت” و”طلال معلا” و”أحمد الفياض” وتمكنوا من تنظيم المعرض التشكيلي الأول عام 1977، في صالة المركز الثقافي بالرقة، وفي ذات العام أحدثت وزارة الثقافة مركزًا للفنون التشكيلية في الرقة، قدّم المواد الأولية والمكان والمدرسين المختصين، ليستطيع هذا المركز تخريج عدد من الفنانين التشكيليين، والذين أثمرت على أيديهم الحركة الفنية في المدينة.
وفي بداية التسعينات ساهم تبعثر أعضاء “تجمع فناني الرقة” في دول الغربة في تراجع الحركة الفنية، على الرغم من محاولة بعض الأسماء كفواز اليونس الذي كان مدرسًا للتربية الفنية في ثانويات الرقة، الذي حاول من خلال إصراره على أهمية الفن التشكيلي، أن يثبت ريادة هذا الفن بالمقارنة مع العلوم والاختصاصات الأخرى، فاستطاع تنظيم وإقامة عدد من المعارض الفنية الجماعية والفردية من خلال أعمال صورت بيئة حوض الفرات عمومًا والبيئة الرقاوية خصوصًا.
ماذا حدث لهذا الفن في الأزمة التي مرت
بعد سيطرة الفصائل المسلحة على مدينة الرقة عام 2013 وخروج قوات الحكومة السورية منها، فقد الفن التشكيلي الرّقاوي أبرز الأسماء التي هاجرت خارج المدينة، إلى جانب بقاء البعض داخلها، لكنهم قطعوا علاقتهم مع فنّهم ولوحاتهم، رغم محاولة بعض الفنانيّن رسم لوحات في السّر وإخفاءها، خوفًا من الإرهابيين، وخصوصًا مرتزقة داعش الذين اعتبروا هذا الفن أو ممارسيه من أعضاء الفرق الضالة التي لا تمت للإسلام بصلة، وتعرضوا للاعتقال حالهم كحال أغلب من ناهض هذا الفكر المتحجر الغريب عن ثقافة وعقلية المكونات السورية كافة.
الفنانون التشكيليون هم من أعادوا لهذا الفن رونقه
شهد واقع الفن التشكيلي في مدينة الرقة بعد تحريرها من مرتزقة داعش حركة وتطورًا ملحوظًا، ولعب مركز الرقة للثقافة والفنون التابع للجنة الثقافة والآثار الدور الأساسي والأكبر في إعادة إحياء روح الفن التشكيلي إلى ما كانت عليه في الماضي، وتبنى المركز الفنانين وجمعهم من خلال إنشاء معارض فنية وصالات للرسم والنحت والموسيقى وغيرها من الفنون.
واستطاع مركز الرقة للثقافة والفنون إعادة الفن التشكيلي والفنانين إلى رسوماتهم ولوحاتهم، بعد انقطاعهم عن مسيرة الرسم لسنوات بسبب الأزمة السورية التي شرّدت شعبها، وتحول هؤلاء الفنانين والمثقفين إلى نواة لعودة الرونق الحضاري للرقة.
مركز الرقة للثقافة والفنون هو اليوم من أبرز المعالم الحضارية داخل مدينة الرقة، الذي يهتم بكل الاختصاصات الفنية، بما فيها الفن التشكيلي، والذي وجد مغرموه في هذا المركز العناية الفائقة التي استطاعت بعث الروح الفنية لتظهر لوحات تنظر إلى المستقبل بالشكل الأجمل، إضافة إلى تصويرها للجرائم التي مرت على السوريين خلال العقد الماضي، واستطاعت تلك اللوحات أن تكون ذاكرة ثقافية لأبناء درة الفرات.
الفنانة التشكيلية كوثر الخلف البالغة من العمر 32عامًا من أهالي مدينة الرقة، درست قسم الرسم، تقول: ” أثناء تجهيز المركز الثقافي في الرقة، التحقت بمجموعة من الفنانين والرسامين، حيث اهتمّ المركز برعايتهم وقدّم كافة الاحتياجات وأدوات الرسم الخاصة للفنان، ورسمنا العديد من اللوحات التي تجسّد واقع مدينة الرقة من انتهاكات داعش والمجازر التي ارتكبها الاحتلال التركي بحق شعبنا، ولوحات تحاكي واقع معاناة المرأة إبان سيطرة مرتزقة داعش على المدينة”.
ووصفت كوثر واقع الفن التشكيلي بـ “المقبول جدًّاً”، وتقول “اليوم تنظّم المعارض الفنيّة، ونشارك في المعارض التي تُقام على مستوى شمال وشرق سوريا، ومن خلال تلك المعارض يتم التعرف على فنانين آخرين، ولمّ شملهم ليكونوا تحت سقف المراكز الثقافية في مناطق الإدارة الذاتية”.
المركز الثقافي في الرقة إعادة بناء من انقاض الحرب
أمل عطار فنانة تشكيلية شُغفت بالرسم، وتميزت بالنشاطات وبرسوماتها المعبّرة، حتى أصبحت اليوم مدربة في المركز الثقافي وهي إحدى مؤسسات المركز.
تقول أمل عطار:” بعد تدمير المركز الثقافي في مدينة الرقة، والذي كان يُعدّ صرحًا عظيمًا للرقة، وثاني أكبر مركز ثقافي على مستوى سوريا، أسس مجلس الرقة المدني المركز الثقافي، وسارعنا بالتواصل مع عدد كبير من الفنانين والمثقفين والأدباء في الرقة للعودة، وليجتمع الفنانون سواء في الداخل أو في الخارج”.
وأول خطوة باشر بها المركز كانت إراحة ذاكرة الفنان من خلال رسم لوحات مناظر طبيعية بهدف تصفية ذهن الفنانين واسترجاع ذاكرة مزج الألوان له، فتم تشكيل صالة خاصة بالرسم، وبعد رسم عدّة لوحات فنية، نُظّمت معارض في الرقة ومعارض مشتركة مع باقي الأقاليم”.
تشير الفنانة التشكيلية أمل عطار إلى أن الفنان أصبح اليوم، قادرًا على التعبير باللوحات التي يختارها دون عوائق، ورسم واقع الشعب السوري بلوحات تعبيرية وتجسيد معاناتهم، “ووصلنا لتحقيق حلم الفنانين بالمشاركة في معارض قد تكون في دول خارجية عربية أو أجنبية”.