سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

العين ذات الزرقة الخارقة… حكاية المصريين والحسد

دائماً ما كان الخوف من قوى الشر المختلفة هاجساً عند الإنسان على مر العصور، وعند المصريين كان هذا واحداً من التحديات التي عملوا على مواجهتها منذ عهد مصر القديمة التي تزخر معابدها بأدلة متنوعة على كيفية قيام المصري بالسعي إلى الحماية من الشرور، ولاحقاً ومع اختلاف العصور تغيرت المفاهيم، ولكن لم يتغير قلق الناس من قوى الشر المختلفة ومن بينها الحسد.
فالخوف من الحسد هو سمة عامة عند كثير من المصريين، وعلى رغم ذكره في القرآن والكتب المقدسة وارتباط كثير من الناس بتلاوة الأذكار والآيات التي تحمي منه، فإن فكرة الحسد وعلاقة المصريين به تمثل توليفة فريدة تجمع بين الدين والتراث الشعبي والثقافة المتوارثة منذ أقدم العصور، وتمنح الأمر طابعاً مختلفاً عن أية منطقة عربية أخرى.
ويزخر المجتمع المصري بكثير من الأمثال الشعبية المرتبطة بالحسد والخوف منه، التي تصور الأضرار العظيمة التي يمكن أن يتعرض لها الناس إذا أصيبوا بالعين، فـ”العين فلقت الحجر”، و”عضة أسد ولا نظرة حسد”، و”عين الحسود فيها عود”، و”ما يحسد المال إلا أصحابه”، و”داري على شمعتك تقيد”.
وفي الوقت نفسه تضم حوارات المصريين اليومية عشرات الكلمات التي يرددها الناس للتحصين ولذكر اسم الله على الأشياء والأشخاص حماية لهم من الحسد والعين مثل “اسم الله عليه”، أو “اسم النبي حارسه”، و”ما شاء الله”، و”تبارك الله”. وفي الوقت ذاته نجد الكف الشهيرة بـ”خمسة وخميسة” حاضرة بقوة في حديث المصريين، فهناك “خمسة في عين الحسود”، و”خمسة في عين إلي ما يصلي على النبي”.
والكف الشهيرة بـ”خمسة وخميسة” ترتبط بالمصريين منذ أقدم العصور، واختلفت دلالتها مع اختلاف الأديان ففي مصر القديمة، إذ ترمز الكف إلى (الكا) وهي الروح أو النفس، وظهرت في عديد من الآثار المصرية القديمة، وعند اليهود هي كف مريم أخت النبي موسى، ويراها المسيحيون كف مريم العذراء صاحبة البركة وأم النور، وهي كف فاطمة بنت محمد التي ترمز لأركان الإسلام الخمسة وعدد آيات سورة الفلق، والجميع يراها على مر العصور وسيلة للحماية من الشرور.
طقوس مختلفة اعتمدها المصريون على مر التاريخ للحماية من الشرور والحسد بدأت بالتمائم والقرابين، ولاحقاً مع ظهور الأديان الأدعية والنصوص المقدسة، حتى إن بعض الرموز لا تزال حاضرة ومتوارثة منذ أقدم العصور، ولا يزال للمصريين طقوس معتادة للحماية من الحسد أبرزها إشعال البخور في المنازل وبخاصةٍ صباح الجمعة، ومسك الخشب عند سماع أمر مبهر أو عظيم، ورش الملح في الاحتفالات مرددين “حصوة ملح في عين الحسود”، وعادات ترتبط بالمناسبات السعيدة كافة، إذ يمكن أن يحسد فيها الشخص مثل الزواج والنجاح والإنجاب، فأصبحت تشكل جزءاً رئيساً من التراث الشعبي والثقافة العامة للمصريين.
الباحث في التراث الشعبي أسامة غزالي يقول إن “كل منطقة في مصر لها ما يميزها في ما يتعلق بالحماية من الشرور والحسد باعتبار أن مصر تتميز بروافد ثقافية مختلفة، وبصورة عامة فإن المصريين يفرقون بين شيئين: الحماية من الحسد وهو القادم من إنسان، والحماية من الشر وغالباً ما يأتي من الطبيعة، واعتمد المصريون عدداً من العادات في العصور المختلفة للحماية منهما، أشهرها الكف والعين وحدوة الحصان وطبع كف الدم على الحوائط عند الذبح، ومن المشاهدات في صعيد مصر تعليق قرني الخروف على باب المنزل، أو وضع سباطة البلح أعلى المنزل لاعتقادهم أنها تحمي من الشر، وفي النوبة جنوباً يضعون التماسيح المحنطة على أبواب المنازل”.
ويضيف: “من المشاهد اللافتة للحماية من الشر هي العروسة التي تظهر بأشكال مختلفة، فمن العروسة الورقية التي تخرم وتحرق، إلى قيام بعض الناس بعمل عروسة من الطين وتثبيتها على أفران الخبيز التقليدية باعتبار أنها تجلب الخير والرخاء، وقيام النساء بعمل عروسة من العجين وخبزها للأطفال في بداية الخبيز، وفي منطقة معينة من الصعيد كانت منازل بعض الأبواب تغلق جانبيها على شكل رسم لعروسة بحيث تأخذ عين الزائر، فأبواب المنازل كثيراً ما كان يوضع عليها ما يعتقد الناس أنه يمنع الشر ويأخذ العين، سواء كانت مفردات شعبية أم نصوصاً دينية من الكتب المقدسة، باعتبار أن باب المنزل هو أول شيء تقع عليه عين القادم التي قد تحمل شراً أو حسداً”.
ويستكمل: “من أشهر ما اعتمده المصريون للحماية من الحسد والشرور الأحجبة التي يصنعها المشايخ وتكتب فيها أدعية أو آيات من القران وتعلق للطفل، أو توضع تحت رأس الشخص وغالباً ما كانت تعلق في ملابسه من ناحية اليسار لتكون قريبة من القلب، ومن المفارقات أن الأحجبة لم تكن فقط مقتصرة على البشر، وإنما بعض الناس في البيئات الريفية علقوا أحجبة للحيوانات حتى لا يصيبها أذى باعتبار أهميتها في هذا المجتمع”.
عند الحديث عن الحسد عند المصريين فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هي الخرزة الزرقاء والعين الزرقاء التي تعلق أو يرتديها الناس في سلسلة، فهي من أشهر الموتيفات المرتبطة بثقافة المصريين في الحماية من الحسد والشر، ولكن لماذا اللون الأزرق تحديداً، وما الطاقات التي يحملها ليكون هو لون المصريين الرسمي للحماية من الحسد؟
من أشهر الرموز المرتبطة بالحماية من الحسد عند المصريين هي عين حورس الزرقاء الشهيرة التي ترتبط بأسطورة إيزيس وأوزوريس، فبعد أن قتل ست أخاه أوزوريس ومزق جثمانه استطاعت إيزيس إعادة جمع أشلائه من الأنحاء المتفرقة في البلاد لتنجب بعدها ابنها حورس الذي استطاع الانتصار على ست، ولكنه فقد عينه اليسرى، لتستبدل بعين زرقاء لها قوة خارقة استخدمها المصريون منذ أقدم العصور للحماية من الشر والحسد، وفي الوقت ذاته؛ فإن حورس يصور على هيئة الصقر، ومن المعروف أن عين الصقر تفوق عين الإنسان بمرات في قوة إبصارها.